في إشكاليات السارد غير الطبيعيّ

2022-01-14

نادية هناوي*

ذهب آيزر فولفغانغ في مقالته الشهيرة (القراءة بوصفها مقتربا ظاهراتيا) 1954 إلى أن في النص الأدبي قطبين، أحدهما يبدعه المؤلف والآخر يدركه القارئ. وما بين الإبداع والإدراك منطقة يشترك فيها ظاهراتيا النص الفعلي مع المزاج الشخصي للقارئ. الأمر الذي يجعل كلا من المؤلف والقارئ مشتركين في لعبة التخييل وما فيه من مقاصد مفترضة، تجعل القارئ مستغرقا في حوادث النص المقروء، شاعرا بواقعية الزمنين زمن الكتابة وزمن القراءة. وبهذا يكون في التخييل تنشيط لملكاتنا وتغدو النصوص الأدبية وسيلة لإعادة فهم العالم، وقد زالت المسافة القرائية بين واقعية النص ولا واقعيته، وغدا أفق التوقع هو ثمرة إدراك القارئ لمقاصد الكاتب.
وهذا التفسير لعملية القراءة يظل غير مقنع إذا فهمنا ان أفق التوقع هو نفسه الإيهام الذي يجعل غير الواقعي واقعيا، إذ كيف يكون الوهم سبيلا لتوقع مقصد الكاتب، والكاتب نفسه يتخذ الوهم وسيلة لإيهام القارئ بمقاصده؟
هذا ما أثاره براين ريتشاردسون، ومعه بعض منظري السرد غير الطبيعي، فوقف عند بعض التحفظات التي كان آيزر نفسه قد ذكرها في مقالته آنفة الذكر، متسائلاً كيف يمكن للكاتب أن يسرد قصة، فيها السارد وهمي أو غير واقعي، كأن يكون ميتا أو كائنا غير بشري، أو أي شيء فيه ينفرط عقد المحاكاة الأرسطية؟
ولأجل حل هذه الإشكالية خصص ريتشاردسون الفصل الأول المعنون (مقدمة: خرق الصوت والذات في السرد المعاصر وموت السارد) ضمن كتابه «أصوات غير طبيعية: السرد المتطرف في المخيال الحديث والمعاصر» Un natural voices: Extreme Narration in Modern and Contemporary Fiction جامعة ولاية أوهايو، 2006، ساعيا إلى تفسير الطريقة التي فيها يعاد تشكيل الأصوات السردية في السرد ما بعد الحداثي. ومما عمله في هذا الصدد، أنه اتبع نهجا استقرائيا في تحليل أشكال السرد المبتكرة، بدءا من روايات غوغول ودوستويفسكي وجين أوستن وجوزيف كونراد، إلى روايات أحدث لجيمس جويس وصموئيل بيكيت. وغايته تفسير الطريقة التي فيها يكون الخيال عنصر تشويش في القصص غير الواقعية، المضادة للمحاكاة، لاسيما في الكتابة بتيار الوعي التي فيها يكون المونولوج الداخلي غير قادر على إقناع القارئ بانتحال الشخصية لعقل آخر تتحدث من خلاله، كما فعل جوليان بارنز في روايته «ببغاء فلوبير» 1984، ففي الفصل الحادي عشر منها وظف السرد غير الطبيعي، وكذلك ما استعملته أنجيلا كارتر في روايتها «حواء الجديدة» 1977 على لسان سارد ذاتي غير محدد الجنس. وفي مقدمة ما توصل إليه ريتشاردسون، أن السارد الذي هو غير موثوق فيه، أو غير كفوء أو مجنون لا يعول عليه لأنه مجرد تركيب لفظي خيالي وليس عليه القيام بفعل ما، وهو ما نجده في روايات القرن الثامن عشر.
صحيح أن وجوده يجعل القص مخلخلا ومجزءا غير متماسك ولا شفاف وغير طبيعي، لكن وجود سارد مجهول واقفا خلفه يروي بضمير الغائب ليس له جسد ولا اسم، هو الذي يجعل ذاك السارد الخيالي المعتوه أو غير البشري متمكنا من الحكي بأصوات الأنا ونحن.
من توصلات ريتشاردسون الأخرى، ما يتعلق بالتحول الجذري الآخر في علاقة المؤلف بالسارد، فالسارد لا يمثل أفكار المؤلف ففي «البحث عن الزمن الضائع» ليس السارد هو مارسيل بروست، كما أن ستيفن ديدالوس في «صورة الفنان في شبابه» لا يتطابق مع جيمس جويس، ما يعني وجود مؤلف ضمني في السرد ما بعد الحداثي مثل قصص «الحب الأول» لنابوكوف، كما أنه معروف أيضا في القص الحكائي القديم كحكاية (السير توباس) من «حكايات كانتربري» لتشوسر.
ولأن هذا النوع من الكتابة السردية المستحيلة موجود بكثرة في الروايات والقصص المعاصرة، وجد ريتشاردسون، أن التحدي لنظرية السرد التقليدي سيغدو كبيرا من ناحية تعدد الطرق في ابتكار سراد تختلط فيهم «وجهة النظر» التي تناولها منظرو السرد التقليدي مثل هنري جيمس وفكتور شكلوفسكي وجيرار جينيت، ومن ثم تغدو الإشكالية من ناحية الكاتب، وكيف أن عليه أن يختار بين موقفين سرديين، ويجعل الشخصية التي تروي القصة تتملكه، ما يعني وجود سارد خارج القصة يشير إلى سارد يخاطب القارئ الفعلي.
هذا التخالف في صورة السارد هو الذي يضفي على وجهة النظر تعتيما، فيبدو السرد منفصلا ما بين عقل السارد ووعي القارئ أيا كان ضمير السرد متكلما أو غائبا أو مخاطبا. وافترض ريتشاردسون أنه إذا كان الناقد الفرنسي فيليب لوجون، قد رأى أن الأعمال الخيالية من منظور الشخص الأول يمكن أن تكون سيرا ذاتية، فإنها مع ضمير الغائب تغدو ذات دلالات خيالية فيها اسم السارد يخالف اسم المؤلف متبعا الأعراف الأساسية للسيرة الذاتية، أو تاريخ الأسرة قادرا على معرفة ما يجري في عقل شخصية أو أكثر، وهو ما لا يستطيعه السارد بضمير المتكلم.
ومما رفضه ريتشاردسون، أن وضع شخصية في عقل شخصية أخرى، دون أي تفسير لهذا التداخل، يجعل السرد أكثر هشاشة وتعسفا وغير معقول، وهو ما سعى منظرو السرد لتفسيره دائما. وضرب المثل بقصة نيكولاي غوغول «المعطف» 1842 واجدا فيها أن الروائي يمكنه أن يفعل ما يشاء، على عكس الروائيين الحداثيين الذين أتقنوا عرض الوعي الفردي متماثلا لا ينتهك القواعد الأساسية. أما أصحاب الرواية الجديدة فتعاملوا بشكل مختلف، فآلان روب غرييه كتب قصصه الأولى بصورة غير متصلة ومفرطة بأفعال موضوعية ذات وصف خالص؛ تتفاعل في الواقع مع مختلف جوانب الإدراك مثل قصصه «في أروقة المترو» 1959 و»ثلاث رؤى منعكسة» 1954 إذ يمكن قراءتها على أنها سلسلة من الأوصاف غير المهمة والأحداث غير المتصلة، والأمر متروك للقارئ لملء الفراغات، أو ما يسميه ريتشاردسون (الزوايا المتغيرة للرؤية والمسافات المكانية والتكرار المهوس للغة والمشهد) وفي الشكل الذي يدفع القارئ إلى افتراض وجود عين بشرية خلف صوت السارد، هي ليست عين الكاميرا، بل شخصية مستترة لم تتم الإحالة عليها، وإنما يُستنتج وجودها من تلميحات غامضة مختفية ضمن الأوصاف والمشاهد.
ولم يعد السارد بضمير الشخص الثالث، كما كان عليه من قبل من ناحية الموثوقية، بما يسرده لنا عن شخصياته وسلسلة الاحتمالات السردية التي على القارئ التفكير فيها كي يصل الى الاقتناع بمجرى السرد، كأن يتساءل عن المغزى الحقيقي لعلاقته بالشخصية أو الشخصيتين، وما الهوية الحقيقية للسارد، أو أن يقنعنا أنه شخص ثالث مطلع على أفكار الآخرين، مما نجده في قصة «شكل السيف» 1944 لبورخيس، أو في المسرحية القصيرة «لست أنا» لبيكيت، التي فيها يبدو العالم أحاديا يتحدث عن شخص آخر بينما السرد يتناوب فيه ضميرا الخطاب والغياب.
وقد تضيع الهوية الجندرية للسارد، كما في بعض قصص كالفينو وروايات أنتوني باول، ومنها «الرقص على موسيقى الزمن» 1975أو رواية «دفتر الملاحظات الذهبي» 1962 لدوريس ليسينج. ويبقى الكشف عن الهوية الفعلية للسارد بضميري المتكلم والغياب، مرتهناً بشكل واقعي باللعبة التي فيها يكون السارد خارج أعراف الكتابة السردية، أو موجودا داخلها متجانسا وواقعيا بطريقة تقليدية، وبذلك تنشطر وجهة النظر إلى شطرين وكل شطر يعبر عن وعي سارد يتمظهر في وعي سارد آخر يتضاد مع الأول.. وهنا مكمن الإشكالية النقدية في السرد غير الطبيعي.

 

*كاتبة عراقية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي