هل كان ارتباطهما الزوجي هو الفخ الذي نصبه القيصر للإيقاع بالشاعر؟

ناتاليا نيكولايفنا وبوشكين... الجمال والموت على سرير واحد

2022-01-12

بوشكينشوقي بزيع*


لم يكن الشاعر والكاتب الروسي ألكسندر بوشكين مجرد تفصيل عابر في تاريخ بلاده الأدبي، بل هو لا يزال يُعد منذ قرنين من الزمن وحتى اليوم تجسيداً ساطعاً لكل ما يرمز إلى العبقرية الروسية، كما إلى وحدة الشعب الروسي، تاريخاً وثقافةً وتطلعات. فمن شواطئ البلطيق غرباً إلى أقاصي سيبيريا في الشرق، ثمة شعور لدى الجميع بأن أياً من الشعراء والكتاب الروس لم يقيض له امتلاك الموهبة الاستثنائية التي امتلكها بوشكين، ولا أن ينقل الأدب واللغة الروسيين من طور إلى طور، أو يبلور الوجدان الروسي القومي في كتبه وأعماله، كما فعل صاحب كتاب «الغجر». ولعل أحداً من الذين عاصروا بوشكين أو تأخروا عنه، لم يستطع الإفلات من لغته وأسلوبه ومقارباته للوجود والأشياء، حتى لو كان الكاتب المعني من وزن غوغول وتولستوي وليرمانتوف وتورغينيف وديستويفسكي. كما لم تكن حدوس غوغول إراء رسوخ الشاعر الروسي في ذاكرة الأجيال المقبلة، ليجافي الحقيقة بشيء، حين وصف بوشكين بقوله: «إنه الإنسان الروسي في تطوره، وصولاً إلى الصورة التي سيكون فيها بعد مائتي عام. إن فيه الطبيعة الروسية واللغة الروسية والطباع الروسية، معكوسة بالنقاء نفسه والجمال المصفى إياه، كانعكاس المنظر الطبيعي على السطح المحدّب لعدسة مرئية».
والواقع أن بوشكين قد استطاع خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز الـ38 عاماً أن ينقل اللغة والأدب الروسيين من طور إلى طور موزعاً نفسه بين الشعر والرواية والقصة والمسرح وأدب الرحلات. وإذا كانت أعماله بمجملها تتسم بالجدة والرشاقة والليونة الأسلوبية، فهو في عمله الروائي المتميز «يفجيني أونيغين»، لا يكشف عن تفاعله الخلاق مع وجدان شعبه الجمعي فحسب، بل يستشرف في الوقت ذاته مصيره المأساوي من خلال الشاعر الحالم لينسكي الذي كان يعيش حياة هانئة في الريف الروسي مع زوجته الجميلة والمرحة أولغا، قبل أن يتعرف إلى أونيغين، الشاب الوسيم والثري القادم إلى الريف هرباً من صخب موسكو المضجر. وإذ يقوم لينسكي بترتيب لقاء للتعارف بين أونيغين وتتيانا، شقيقة أولغا الحالمة والمنطوية على نفسها، تجد هذه الأخيرة نفسها واقعة في غرام أونيغين، الذي لا يكتفي بصدها والأعراض عنها، بل يقوم بمغازلة أختها أولغا، الأمر الذي لم يترك لزوجها لينسكي خياراً للدفاع عن كرامته، سوى دعوة أونيغين إلى المبارزة، وفق التقاليد الروسية آنذاك. وكان من نتيجة المواجهة الظالمة تلك أن دفع لينسكي حياته ثمناً لشرفه المطعون في الصميم، بما بدا كأنه السيناريو الرؤيوي الذي استشرف من خلاله بوشكين مصيره اللاحق.
لم يغفر القيصر ألكسندر الأول لبوشكين وقوفه إلى جانب الأقنان والفلاحين والطبقات الشعبية الفقيرة، في مواجهة الأقطاع والنبلاء وكبار الملاك، الذين شكلوا رافعة النظام القيصري وركيزته الأصلب، في تلك الحقبة من التاريخ الروسي. والواقع أن قرب الشاعر من البلاط، بحكم كونه حفيد إبراهيم بانيبال، الرجل الأفريقي الذي أسر في تركيا وتم إهداؤه إلى بطرس الأكبر، قد أسهم إلى حد بعيد في إثارة حفيظة القيصر، الذي لم يغفر لبوشكين تمرده وانحيازه إلى صفوف الثوار. وكان من نتيجة ذلك أن أوعز ألكسندر الأول بنفي بوشكين إلى سيبيريا، قبل أن يقرر بفعل شفاعات بعض النافذين بتعديل وجهة النفي من سيبيريا إلى القفقاس، ومن ثم إلى القرم. ورغم أن الديسمبريين الجنوبيين رأوا في وجوده بينهم دعماً معنوياً عالياً لانتفاضتهم، فإنهم لم يشجعوه على الانخراط التنظيمي في صفوفهم، حماية له من مغبة الانكشاف، ومن الثمن الباهظ الذي يمكن أن يدفعه تبعاً لذلك.
على أن فرحة بوشكين بوفاة ألكسندر الأول واندلاع ثورة الديسمبريين المسلحة ضد النظام القيصري، لم يقدّر لها أن تدوم طويلاً، بسبب تمكّن القيصر الجديد نقولا الأول من القضاء على الثورة وإلقاء القبض على كثير من قادتها. لكن الألم المعتمل في الشاعر نفسه، ما لبث أن حول قصائده اللاحقة إلى عاصفة عاتية من الغضب والعصف الروحي في وجه نظام الحكم. وحيث لم يتردد القيصر في إعدام قادة الثورة، وبينهم الشاعر الثائر ريلييف، أطلق بوشكين عبر قصيدته «النبي» دعوة غير مواربة للإطاحة بنظام الاستبداد الدموي:
ألا انهض يا رسول روسيا
والتفّ بهذه الحلة المنسوجة من العار
وتقدّمْ، والحبْل يشد على عنقك
أمام القاتل الكريه
وسط كل ذلك المشهد القاتم، تراءى لبوشكين أن الأمل بتحسين ظروف حياته قد حان، إثر الرسالة المؤثرة التي وجهها إلى القيصر بخصوص الرقابة الصارمة المفروضة عليه، وقيام هذا الأخير بدعوته للقائه. إلا أن قرار نقولا الأول بوضع الشاعر تحت رقابته المباشرة، لم يفضِ إلى جعل حياة الأخير أكثر سهولة، بل حوّلها إلى جحيم حقيقي من التربص اليومي والمراقبة المتواصلة من قبل الشرطة وأجهزة المخابرات. وحين ضاق صاحب «الفارس البرونزي» ذرعاً بحصاره الخانق، التمس من القيصر السماح له بالسفر إلى أوروبا أو الصين فلم يُسمح له، بذريعة الخوف من تأليب الرأي العام في الخارج ضد نظام الحكم.
في ظل تلك الظروف الشخصية القاسية، التقى بوشكين في موسكو بالشابة الحسناء ناتاليا نيكولايفنا، وعرض عليها الزواج فلم توافق. إلا أن الشاعر المفتون بجمال ناتاليا الآسر، لم يكف عن ملاحقتها طيلة عام كامل، إلى أن وافقت في النهاية على الاقتران به. وإذ أقطعه أبوه جزءاً من ممتلكاته الريفية في بولدينو، لم يتأخر من جهته في الذهاب إلى هناك لترتيب أمور الزواج وتوفير استحقاقاته المادية الداهمة. لكن انتشار وباء الكوليرا في تلك المنطقة قطع عليه طريق العودة إلى موسكو لفترة طويلة. حتى إذا تم الزواج وتذليل كثير من المصاعب، وشعر بوشكين أخيراً بأن القدر قد بدأ يبتسم له، كتب إلى أحد أصدقائه قائلاً: «إنني متزوج وسعيد، وأمنيتي الوحيدة هي ألا يتغير في حياتي أي شيء. إنني أشعر كأنني وُلدت من جديد».
لكن بوشكين الذي ظفر بواحدة من أجمل نساء روسيا، لم يكن ليُسمح له بأن يحظى بحياة هانئة، وهو الشاعر العصي على التدجين، والذي ترتعد لمواقفه المناهضة للطغيان فرائص القيصر الروسي وأتباعه. وما زاد الطين بلة هو السلوك العدائي الذي أظهرته تجاهه والدة زوجته، المصابة بنوع من الاختلال العقلي، الأمر الذي اضطره لنقل مسكنه إلى بطرسبورغ، دون أن يكف البوليس السري عن مراقبته وتتبع خطواته. أما مبادرة القيصر إلى تعيينه في سلك الخدمة الحكومية فلم تكن، وفق الناقد الروسي كيربوتين، سوى الشرك الذي أعده نقولا الأول لاستدراج الشاعر إلى زيارة البلاط مصحوباً بزوجته الفاتنة التي كان جمالها قد أثار انتباه القيصر، بعد أن شاهدها غير مرة في مناسبات البلاط الرسمية. وإذا لم يكن ثمة من أدلة دامغة على اضطراب العلاقة بين الزوجين، فإن ذلك لا ينفي حقيقة التباين في اهتمامات كل منهما، حيث كانت علاقة الشاعر بالإبداع ترقى إلى حدود التنسك، فيما كانت ناتاليا أميَل إلى اللهو والترف الصاخب والشغف بالحياة.
أما المفارقة الأكثر إثارة للانتباه والأقرب إلى الكوميديا السوداء، فقد تمثلت في رفض الرقابة كثيراً من أعمال بوشكين الأدبية، بحجة تحريضها السافر على العصيان، في حين كان القيصر من جهته يوشّح الشاعر برتبة النبالة القيصرية، لا لشيء إلا لوضعه في موضع الشبهة من قبل جمهوره الواسع، ولجعل ناتاليا ضيفة دائمة على مناسبات البلاط. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى خصوصيات الشاعر الحميمة والاطلاع على الرسائل المتبادلة بينه وبين زوجته. وفي ذلك يكتب بوشكين: «قد أكون أحد رعايا القيصر أو حتى أحد عبيده، إلا أنني لن أكون أبداً تابعاً ذليلاً ولا مهرجاً. وكم هو أمر غير أخلاقي أن يطلع البوليس على الرسائل الموجهة من زوج إلى زوجته، ثم يحضرها إلى القيصر لكي يقرأها». ورغم غرق بوشكين في الديون وقد بات معيلاً لأربعة أطفال، فإنه قدم عام 1834 التماساً إلى القيصر لإنهاء خدماته، فبادره الأخير بالرفض الصارم، وهو ما جعله يكتب إلى زوجته: «لقد كانت ولادتي محفوفة بالنحس، ولم تكن موهبتي في روسيا، سوى خدعة من خدع الشيطان».
على أن الشاعر الذي قدّر له أن يواجه كل صنوف المتاعب والمكابدات، لم يكن يعلم أن الفصول الأسوأ من حياته لم تكن قد وقعت بعد، وأن القدر، متحالفاً مع القيصر، كان يهيئ له السبيل إلى مصيره المأساوي عبر الضابط الفرنسي دانتس، الذي يعمل في الحرس الإمبراطوري، والذي لم يتورع عن التحرش الوقح بناتاليا، زوجة الشاعر. ولم يكتفِ المتربصون ببوشكين بإطلاق الشائعات المغرضة حول علاقة زوجته بالضابط الوسيم والسادر في وقاحته، بل عمد بعضهم إلى أن يبعثوا له برسالة بريدية مغفلة التوقيع مفادها أنه «انتُخب بالإجماع أستاذاً عاملاً في سلك الأزواج ذوي القرون، ومؤرخاً لهذا السلك في الوقت ذاته». وإذ خشي السفير الهولندي في بطرسبورغ، وهو أب دانتس بالتبني، من أن يقوم بوشكين بدعوته إلى المبارزة، أوعز إلى دانتس بطلب يد كاترينا جونشاروفا شقيقة زوجة بوشكين. ومع أن الزواج قد تم بالفعل، فإنه لم يمنع الضابط المزهو بنفسه من متابعة تحرشه بناتاليا، الأمر الذي لم يترك للشاعر خياراً سوى دعوة دانتس إلى المبارزة إنقاذاً لشرفه الشخصي والعائلي.
لم تكن المواجهة بين بوشكين وغريمه مجرد مبارزة عادية بين ضابط متمرس بالقتل، وشاعر رقيق وبالغ الشفافية، بل بدت في بعدها الرمزي مواجهة بين جلاوزة الطغمة المتسلطة، وشعب روسيا الجائع والمقهور. أما الطلقتان اللتان تم تبادلهما لحظة المبارزة، فقد جسدت أولاهما كل ما أحاق بروسيا من تخلف وفساد وتعصب ظلامي، فيما جسدت الأخرى أكثر ما في تلك البلاد المترامية من عنفوان وشغف بالحرية وتطلع إلى المستقبل. وفيما كانت الطلقة التي سددها ممثل القيصر باتجاه بوشكين كافية للإجهاز عليه، كانت الطلقة التي سددها بوشكين باتجاه خصمه المتشاوف، أوهن من أن تصيبه في مقتل. أما وقد نزل الخبر المشؤوم نزول الصاعقة على الشعب الروسي، فإن السلطة الخائفة من حزن الملايين على شاعرها المغدور، لم تسمح بدفنه كما يليق بأعظم الشعراء الذين أنجبتهم البلاد عبر تاريخها الطويل، بل أمرت بأن يوارى جثمانه في جنح الظلام وتحت حراسة مشددة. لكن بوشكين وهو المدرك تمام الإدراك أن مصير شعره سيكون أفضل بكثير من مصير جثمانه، استبق رحيله الجسدي بقصيدة «نصب تذكاري» التي تحدس ببقاء اسمه راسخاً إلى الأبد في ذاكرة شعبه ووجدانه، والتي جاء فيها:
لن أموت بشكل كلّي
بل ستظل روحي بين أنغام القيثار
تحيا بلا جسد، وغير قابلة للفساد
وسأعرف الشهرة طالما هنالك شاعر واحد
لا يزال حياً تحت السماء
أما روسيا فستعرف اسمي
في كل لغة منتشرة في أرجاء زمامها العظيم

 

*كاتب وشاعر لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي