طاهر علوان *
على افتراض فناء العالم بالتدريج بسبب عدوان خارجي غير مسيطر عليه سوف تمضي قصص الديستوبيا وقراءة مستقبل البشرية الغامض والمليء بالتحديات، وكل ذلك في إطار أسئلة تحاول اقتفاء أثر المجهول ورسم صورة نهاية العالم الذي يتآكل بالتزامن مع ضعف الإنسان القادم من الحروب والصراعات والذي تلاحقه الأوبئة. وفق هذه الخلفية الإشكالية يأتي فيلم “المواجهة” للمخرج الأميركي ميكائيل بيرس.
يقع فيلم “المواجهة” في التسلسل العشرين للمخرج الأميركي الشاب ميكائيل بيرس، بعد إخراجه عددا من الأفلام القصيرة والمسلسلات التلفزيونية، ليكون روائيّه الطويل هذا الثاني له.
ويضعنا الفيلم منذ مشاهده الأولى أمام تحدّ تواجهه الإنسانية متمثلا في الحشرات والبكتيريا والجراثيم التي تحاصر الكائن البشري من كل جانب، وهي حقيقة، لاسيما وأن إنتاج هذا الفيلم يتزامن مع تفاعلات تفشي وباء كوفيد – 19 والمتحوّرات الناشئة عنها والتي جعلت الكائن البشري هشا وعديم الحيلة أمامها.
وبعد لقطات متتابعة أدركنا من خلالها كيف تتغلغل الطفيليات والحشرات في داخل الجسم البشري من الجلد إلى تجاويف الأنسجة والأوعية الدموية وهو كابوس افتراضي، نجد على الجانب الآخر الجندي السابق في المارينز ماليك ويؤدّي دوره الممثل ريز أو رضوان أحمد، وهو ممثل بريطاني من أصول باكستانية من مواليد العام 1982، وقد جسّد عشرات الأدوار منذ انطلاقته قبيل حوالي خمسة عشر عاما.
ماليك، جندي المارينز الذي يكتب لابنه الصغير الرسائل على فرض أنه يقوم بمهمة أخرى، ليس إلاّ سجين تحرّر مؤخرا بعد الإفراج الشّرطي بسبب عنفه المفرط وعدوانيته، ليجد نفسه، بعد مغادرته السجن محمّلا بعقدة الكائنات الفضائية الغازية التي أرسلت إلى الأرض البكتيريا والطفيليات والحشرات الصغيرة والمجهرية، وعلى هذا فإن زوجته ليا من وجهة نظره هي إحدى ضحايا ذلك الغزو وأنها تعاني الأمرّين وتغزو جسمها الديدان.
ها نحن مع ماليك وهو يصحب طفليه في رحلة ليلية هي بمثابة مفاجأة لهما، ثم ليفصح عن حقيقة أن الولاية التي كانوا يسكنون فيها أصبحت بؤرة لتلك البكتيريا والحشرات، ولهذا يجب التسلّح بمبيدات الحشرات على الدوام ضدّ أي هجوم محتمل للحشرات، فضلا عن الإجلاء عن المدن المصابة، وهو ما يقوم به ماليك من خلال إجلاء ولديه والهرب بهما بعيدا.
هذا الإيهام والالتباس هو الخط الدرامي والسردي الأساسي الذي انشغل به المخرج، وهو أيضا مشارك في كتابة السيناريو وقد زجّنا فيه وحرص على إبقاء الشخصية الرئيسية غارقة في ذلك الإحساس بالخطر الذي يدفع ماليك لإنقاذ طفليه، فيما يبعد عنهما فكرة إنقاذ والدتهما.
وفي إطار كشف المعلومات التي تدفع المُشاهد على متابعة أحداث الفيلم سوف نكتشف أن ماليك خاضع للإفراج الشّرطي، وأن ما قام به يقترب من جريمة اختطاف الطفلين مع دفاع الشرطية المسؤولة عن مراقبته وحسن نيتها به، وأنه لن يؤذي الطفلين، إلاّ أن السلطات تستعدّ لمواجهة مجرم خطير ومسلح قام بعملية اختطاف خطيرة.
من هنا سوف ننتقل بهذه الدراما الفيلمية إلى مستويات معقدة ومتشعّبة من التصعيد، فمن جهة أصبحنا أمام نوع من أفلام الطريق من خلال رحلة ماليك وولديه وما يدور بينهما من حوارات، وصولا إلى أولى المواجهات التي تقع له في الطريق وأول ضحاياه هو رجل شرطة.
الحاصل أن جماليات دراما الطريق تلك والمشاهد الليلية في الغالب سوف تنقلب إلى دراما جريمة ومواجهات دامية متوالية سواء في ضرب الشّرطي وتركه مرميا على قارعة الطريق أو ضرب صاحب المتجر حتى كاد يفقد حياته، انتهاء بالمواجهة بالأسلحة الأوتوماتيكية مع ابنيه.
هذا المزيج ما بين الحركة والعنف والجريمة وسينما الطريق وملاحقة أجهزة فرض القانون لماليك كلها سوف تحتشد في هذا الفيلم ليكون العالم الديستوبي الذي افتتحنا به تلك الدراما في الخلف، بمعنى آخر إنه دافع كاف لهلع ماليك وسعيه للنجاة بنفسه وطفليه من الكارثة المقبلة، وهو ما جسّده مرارا في سلسلة من الرسوم التي تفصح عمّا يدور في رأسه من تخيلات تقترب من الهلوسات والخوف المرضي.
في المقابل لن نلمس لدى الشخصيات المقابلة نفس ذلك التوجّس، بل إنهم يلتقون على فرضية أن ماليك مجرد محارب خرج من حروب أميركا، وهو يعاني من متلازمة ما بعد الصدمة التي تؤجّج في داخله المخاوف الهستيرية التي ربما تعود إلى إدراكه بوجود تلك الأسلحة التي تعتمد الجراثيم والبكتيريا وتطوير الحشرات جينيا.
وها نحن ننتقل في القسم الثاني من الفيلم إلى لعبة الكرّ والفرّ والتي سوف يشارك فيها الطفلان اضطرارا، وذلك دفاعا عن والدهما وخاصة الطفل الصغير الذي سيكمل مهمة الوالد بقيادة السيارة بعيدا من أجل جلب الدواء له، ولنمضي بعد ذلك مع المزيد من المواجهات العنيفة التي يسعى ماليك لخوضها إلى نهاياتها.
ولمنح الفيلم منحى أكثر عاطفية، كان لا بد لتلك المواجهة أن تصل إلى الكثير من التحشيد النفسي والعاطفي ما بين ماليك وطفليه وبين قوات الشرطة والقناصين الذين توصلوا أخيرا إلى مكانه، فإما قتله أو أن يسلم نفسه وطفليه، وذلك ما يقع بالنتيجة.
*كاتب عراقي مقيم في لندن