
محمد الفحايم
يمتدّ الزقاق الموحش صوب البحر، لا يفصله عنه سوى سورٍ عتيق تآكلت حجارتُه من فرط رطوبة البحر، يصفعه الموج بعنف خلال فترات المدّ الطويل، يتناثر رذاذُه فيرُشّ شُرُفات «الملاّح» المحاذية للسّور.. حيّ الملاّح اليهودي الذي صارت دوره خِرَبا..
يخرج عمّار متّكئا على عكّازه الأنيق، يعتمر قبّعة سوداء، ويرتدي بذلة رمادية متجها إلى مقهاه القديم في حيّ «فوكس». ينظر إلى ساعته التي تشير عقاربها، الآن، إلى الساعة العاشرة.. هو ذا موعد اجتماعه الصباحي مع صديقيه الأثيرين بوخالفة والتلمساني..
– كيف عامل أسِّي عمّار؟ يسأله النّادل
– «غاية» يجيبه عمّار.. يغيب النّادل برهة، ثمّ يُحضر قهوة سوداء معصورة.. يرشف عمّار قهوته وهو يقلّب صفحات الجريدة.. يتوقّف عند حوار أُجْرِي مع إدموند عمران المالح.. قرأ الرقم الذي أدلى به هذا الكاتب المغربي اليهودي الشهير، عمّن تبقّى من المغاربة اليهود في البلد.. قال عمّار في قراره: (رقمٌ مُخجل ومهين للذاكرة اليهودية، التي امتدّ تاريخها وحضارتها في المغرب إلى ألفي سنة!) طوى الصحيفة وأصاخ السّمع إلى الكلمات الحزينة التي تنبعث من الشريط: (وينْ حْبابي كامْلين؟ وينْ راحو؟ كأنّهم ما كانوا). يتذكّر صوت سامي مغربي وحفلاته الغنائية التي كان يُقدّم فيها أجمل الألوان الموسيقية كالأندلسي والغرناطي والملحون والشكوري والحوزي الجزائري.. مرّت ساعة لم يحضر فيها صديقاه.. رشف عمّار آخر جرعة من كأسه ثمّ حيّى النادل وانصرف يتكئ على عكازه مُيَمّما شطره نحو «الأوداية». مرّ بالسوق التحتي أو شارع القناصل، وكان اليوم يوم الخميس.. السوق غاصّة بعارضات الزرابي الرباطية يعرضن ما نسجت أيديهنّ على بلاط السوق.. بلغ المقهى ـ التحفة. كان السّياح كدأبهم يملؤون رحبه. اختار ركنه الأثير في آخر زاوية، حيث يُبصر من علٍ وادي أبي رقراق يتهادى بدلال فيعانق مياه المحيط، فيما كانت نوارس رمادية تحوم بجلال وهي تدنو من الماء.. يسرح نظره بعيدا ليتخلص من جَلَبة السياح التي تُعكّر صفو عزلةِ الكائن في هذا المكان الجليل. يرشف من كأس الشاي المنعنع. يتأمّل الدّارةَ العالية قبالته تُزيّنُها داليةُ عنب، وكرمة تين، وعلى إفريزها صُفَّتْ أُصُصُ زهور متنوعة. فيما كان خيال عمّار يجوب بعيدا، إذا بصخب فوج جديد من السياح يملأ المقهى. ستعيده اللغة المتداولة بين أفراد هذا الفوج إلى الواقع.. كلمات تذكّره بطقوس العبادة في الطفولة، أيام السبت في الكنيس.. غَشِيَتْ جماعة منه الرُّكنَ الذي ينزوي فيه عمّار، يتحدثون بينهم بالعبريّ، وعندما رنا واحد منهم ببصره إلى الضفة الأخرى من الوادي لم يشعر حين غيّر كلامه من العبرية المكتسبة إلى العربية المغربية المتأصلة: (هْناكْ كنّا في الصّغر، يا حسرة، كَنْعومو!).
هذه الذكرى تعصر قلب عمّار.. توجِعُه.. توقظ فيه مشاعر حزينة.. تنكأ فيه هذا الجرح الغائر الذي لا يلتئم.. أشاح بوجهه عن هذه العصبة يأبى أنْ يحدّق إلى أحد أو يتعرّفه. استند إلى عُكازه يمشي بخطى متثاقلة، وحمْل السّنين الثِّقال يجثم على ظهره المتقوس.. (تْفو.. إنكم جميعا أغْرابٌ.. استوطنتم أرضا ليست لكم.. وهجرتم أرض الذاكرة الأولى) . قالها وهو يهمّ بِعبور الطريق الرئيسية التي تفصله عن السوق التّحتي..
كاتب مغربي