ليس لي إلا يداك

2022-01-04

هديل مرعي

إلى يسرى سعيد ثابت..عام على الرحيل

في اللحظات التي كان العالم يحتفل بها بقدوم عام جديد بالألعاب النارية. وفي تمام الساعة الثانية عشرة قررت والدتي أن تغادر هذا العالم علماً بأنها وقبل لحظات كانت تحتفل معنا بكامل ألقها و لم تتوان أن تحضر لنا طبقنا المفضل و تتشارك معنا بأمنيات الخلاص و العودة إلى بيتنا.

وهي تكابر على نزيف داخلي حل بها دون أن نعلم، نتيجة خطأ طبي في جرعة زائدة لمميع دم في إحدى مشافي الجزائر.

قد لا يكون اختيار الساعة الثانية عشرة مع أصوات البهجة صدفة فوالدتي تكره الحزن و مظاهره.

كانت ترفض الانكسار أمام أية تجربة مهما كانت قاسية تستمد منها القوة حتى تجربة سجنها في عهد عبد الكريم قاسم و تعذيبها لم يدفعاها إلى المتاجرة. فلا أذكر أنها تحدثت لي أو لغيري عن تفاصيل هذا التعذيب المهين إلا متأخراً وقليلاً وبعد إلحاح. لكنها كانت تسهب في وصف الحالات الإنسانية والمواقف الوجدانية التي هزتها.

ففي اعتقالها للمرة الثانية بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، حيث تم اعتقالها من بيتها في حي الأعظمية البغدادي و رميها في سجن النساء الذي كان مخصصاً للمجرمات والسجينات بدعاوى أخلاقية أغلبهن يعملن في بيوت سيئة الصيت معروفة لأهل بغداد مثل دكان شناوة وغيرها. للمفارقة حكت والدتي أنها كانت خلال حياتها تتوخى المرور من الشوارع القريبة من هذه البيوتات و تختار طريقاً أطول بساعات حرصاً منها أن تبتعد عن هذه الأماكن.

تنتمي والدتي لعائلة مصلاوية معروفة ومحافظة جداً وأن تسجن ابنتهم وهي ابنة العشرين في مثل هذا السجن هو بقصد الإهانة والإذلال. وهي تذكر حادثة هزتها حين أتى شقيقها الكبير سليم إلى المحكمة – وهو بمقام والدها وله قيمته في العراق ذو كاريزما آسرة- وأمسك القرآن و قال وهو يرتجف حابساً دموعه: أحلف بشرفي وهذا القرآن سلموني أختي ليلاً و أعيدها لكم كل صباح راجياً فقط أن تنام في بيتها. لم يُستجب بالطبع لطلبه. كان صوتها يرتعش في كل مرة تستعيد هذه الذكرى، ليس شفقةً على نفسها لكن احتراماً لأخيها.

لما أودعت والدتي السجن كانت ترتدي ثوباً أبيض و بسبب الضرب والركل صارت عليه بقع حمراء من الدم، سارعت إحدى هؤلاء النسوة تواسيها و ذهبت و اشترت صابونة و ثلجاً لتضعه على جراحها، صارت تحاول غسل ثوب والدتي و لشدة تلوث يد السيدة صار الثوب يتلون بالأسود. وحين جاء شقيقها دريد لزيارتها بعد بضعة أشهر، طلبت منه أن يشكر هذه السيدة و أن يدفع لها على الأقل ثمن الصابون و الثلج. بكت السيدة ورفضت قائلة : لقد قدمتم أرواحكم فداءً للعراق.

كانت هؤلاء النسوة يحترمنها و قبل موعد كل محاكمة بيوم، يساعدنها في تضميد جراحها و تحضيرها لتكون بأفضل مظهر ممكن حتى لا يضعف الرجال عندما يرونها حسب تعبيرهن. لقد كن أرحم و أنبل من بعض زملاء الجامعة الشيوعيين الذين لم يتورعوا عن ا لمشاركة في ضربها و تعذيبها و التشفي بها.

لكل من السجينات قصة مأساوية : واحدة أجبرت على إعالة عائلتها من العوز و أخرى هاربة من أهلها ويزورها والدها (منكساً عقاله) ليذكرها أنه ينتظر خروجها ليقتلها بدافع الشرف، وأخرى كانت معها والدتها ودفنت الأم وليد ابنتها في مرحاض السجن لتتستر عليها، وأخرى كانت تغني ليلاً بصوت شجي حزين بلهجة جنوب العراق.

كانت تحكي قصصهم الكثيرة بروح إنسانية كما قصص تشيخوف القصيرة. وحين خرجت من السجن، آوت إحدى هؤلاء النسوة السجينات في بيت أهلها وكان اسمها ( حسنة) خوفاً عليها من القتل. كانت حسنة مصابة بالسل و كان وجودها يشكل خطراً على العائلة، حيث حاول أهلها مراراً أخذها بتهديد السلاح. هذا الموقف كررته في حياتها في محاولتها لحماية أي إنسان ضعيف حتى لو مثل ذلك خطر عليها أوعلى عائلتها. كان يدفعها لهذا حسها المرهف وشعورها بمعاناة الأخرين.

بعد مدة من سجنها سمحت إدارة السجن لوالدتها بزيارتها و لكن من بعيد، فتقف جدتي تحت الشمس تنظر من بعيد و تلوح لابنتها وتشد بقبضة يدها لتعطيها القوة. لم تقبل أمي على والدتها هذه الوقفة المهينة وطلبت إيقاف هذه الزيارات، مبررة ذلك بأنها لا تريد أي عاطفة قد تدفعها أن تضعف. فثمة جملة كانت ترددها طول حياتها ( إنني أبتر كل ما يمكن أن يدفعني للضعف ). وحين كانت صديقات أمي في الجامعة يزرنها لمواساتها في سجن ابنها و ابنتها.. كانت جدتي تقول لهن: لا تبكن كلكن بناتي كلكن يسرى.

من القصص التي كانت تحكيها الوالدة، أنهم أحيانا كانوا يعذبون والدي أمامها و يعذبونها أمامه لإضعافهما. كان والدي ينزع ساعة يده بهدوء حتى لا تنكسر تحت التعذيب وكان لا يصرخ حتى أن شفته السفلى كانت تتشقق من عضه عليها، و هي كانت على العكس تصرخ و تشرح لي أنها كانت تستغرب من صموده و تخجل أنها لم تستطع كظم ألمها أكثر حتى لا تضعفه.

بعد ذلك بسنوات وعندما تغيرت الأحوال والأمور في العراق وألقي القبض على الأشخاص الذين قاموا بتعذيبها صاروا يتصلون بها هاتفياً يسمعونها أصوات تعذيبهم فرفضت وغضبت و كان هذا عاملاً أساسياً في قرفها من كل العمل السياسي، فالوحشية بنظرها لا تعالج بوحشية لكن في محاكم تقتص من المذنبين. و لسخرية القدر أن شقيها أياد نفسه تعرض لاحقاً لأشد أنواع التعذيب ومحاولة الإذلال على يد رفاق الأمس وحكام اليوم وغادر بعدها العراق إلى مصر في عهد عبد الناصر ثم طرده السادات إلى أصقاع الأرض الواسعة. وأن والدتي ووالدي طردوا لما حاولوا الرجوع من سوريا للعراق من قبل على صالح السعدي و رفاقه. ومرة عرض عليها عبد السلام عارف مناصب ووزارات قائلاً لها ( قحط رجال في العراق) في إشارة أن تتخلى عن زوجها السوري و تبقى في العراق. عادت طبعاً لسوريا فهي لا تسعى للمناصب، بل على العكس كانت ترفض السلطة وتزدريها. الأكيد أن الشرفاء يدفعون الأثمان مهما تغيرت الأحوال.

تميزت يسرى ثابت بهذا الضمير النقي والرؤيا الإنسانية الواضحة في مسيرة حياتها. ولم تتخل عن ذلك في أحلك الظروف. حين وصلت إلى سوريا وحيدة بعيدة عن أهلها وكانت تربي طفلاً و تعمل في شركة النفط ، أتوا لها بفتاة عمرها عشرة سنوات لتساعدها في أعباء المنزل فما كان منها إلا أن أدخلتها المدرسة وبذلت جهداً فائقاً لتدريسها فأصرت أن تعبر كل عامين دراسيين بعام واحد حتى تلحق بالركب ونجحت في ذلك. وأعادت التجربة ذاتها في كل مرة كانت تصادف طفلة بلا تعليم، فلقد كان لديها هاجس تعليم الفتيات، اعتقادا منها أن التعليم هو الطريق الوحيد لخلاص المرأة و حريتها.

كما دفعت ثمن مواقفها مع الحق، فمثلاً أنهوا لها عقد عملها في شركة النفظ السورية لأنها ثارت وأذلت موظفاً مخابراتيا يشمت بموت أطفال ملجأ العامرية في العراق، حيث كان النظام السوري وقتها يقف مع قوات التحالف ضد العراق وشعبه. فموقفها الصلب في محكمة المهداوي المخيفة لم يكن مفتعلاً أو غريباً عن تكوينها و قوة شخصيتها، فقد كانت حياتها سلسلة من التضحيات والتحدي مؤكدة أن الإنسان يستطيع أن يكون نبيلاً وشهماً وقويا ًورقيقاً في الوقت نفسه.

لقد أحبت يسرى العراق وحدائق بيوته ونخيله و دجلة و شاطئه المنار ليلاً بنيران السمك المسقوف وأحبت الموصل وبيوتها العتيقة وأهل الموصل وعاداتهم الحضارية الضاربة في القدم.. وكانت تحب من الموسيقا بحيرة البجع وكل الموسيقا الكلاسيكية و تعشق الرسم و تجيده و تحب من الرسامين موديلياني و كذلك تحب رسم شلبية ابراهيم وتحب الورد الأصفر الصغير البسيط الناعم والنرجس لأنه يذكرها با لموصل ووردة الغاردينيا البيضاء التي تذكرها بحدائق بيوت بغداد. كانت تفرح لسماع العصافير في مولد الربيع و تردد معها كلمتها العراقية المحببة (يا دادا). هي فوق ذلك امرأة مثقفة و قارئة نهمة للأدب العالمي وتعشق ديستوفسكي وهمنغواي. كما كانت تحب أسمهان لرقتها وعذوبة صوتها و لرقيها وماريا كالاس وتوقفت عن سماع فيروز بعد أن رأتها على المسرح لأنها حسب قولها عصبية و قاسية الملامح. وتحب من العراق زكية جورج و سليمة باشا مراد.

يسرى ثابت امرأة جميلة ذات حضور يفرض الاحترام، لكن أكثر ما أحببت فيها يديها المرهفتين. كانت ترفض أن نقبل يديها أوأي يد أخرى، وتغضب عندما نحاول ذلك ونفعله أحيانا لممازحتها، ورثت هذا عن والدها سعيد الحاج ثابت الذي كان يرفض تلك العادة التقليدية قائلاً أولادي لا يقبلون الأيادي.

لما رحلت ماما يسرى مسكت يديها و كانت إحداهما باردة جداً وشاحبة، صرت أدفئها وأحضنها وترددت في تقبيلها حتى لا أغضبها. يا إلهي ما أقسى الحياة، نظن و نحن صغار أن لنا الدنيا ورحابها. نكتشف مع العمر وبعد رحيل من نحب أن ليس لنا شيء.. ليس لنا أحد. ليس لي في هذه الدنيا إلا يداك ياماما.. دونهما يضيق المدى حولي .. ويغيب سحر الضوء ولون الورد.. ومواكب الفرح.. وينطفئ الجمال.. ويصبح الحنان ذكرى وإحساس الأمان ذكرى.. والأماني بعام جديد سعيد ذكرى.. فكل شيء بعدك عمر بخيل.

يسكن هذا الحزن الموجع في الضلوع، و تتملكني الحسرة أنني لا أشبهك في قوة الاحتمال.

سألقاك يوماً يا ماما، وسأقبل يديك حباً واعتذاراً عن كل مرة خذلتك فيها أيتها المسامحة الأصيلة.

كاتبة سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي