المِخْيَالُ السَّجِين والمُؤسَّسَة المُصَنِّعة؟

2021-12-01

واسيني الأعرج

إن المجتمع الحر هو المجتمع الذي يتخيل بحرية. طبعاً، هذا ينطبق على المخيال L’imaginaire الفردي والجمعي في آن واحد. يستطيع طبعاً فنان حرّ في المطلق أن يجد التمثلات المختلفة، ويقدم نماذج تخييلية متعالية على ضغوطات المجتمع، تمارس أفعالها الحرة خارج أنساق الضغط المسلط عليها، لكن ذلك كله يحتاج ليس فقط إلى موهبة عالية تستطيع أن تجمع كل الشظايا وتنتجها في نسق ثقافي واسع، لكن أيضاً إلى قوة داخلية تضعه خارج دوائر الاستئصال الذهني التي تستهدف سجن المخيال أو تدجينه على الأقل. إذ يشكل المخيال بنية مستقلة في ظاهرها، لكنها خاضعة لسلسلة من التجاذبات الداخلية تترسخ عبر الزمن، وتتحكم في كل غنانا الداخلي أو فقرنا، من خلال الصور التي ننتجها والقادمة من بعيد. كلنا مؤسَّسون على مخيال محدد، غنيّاً كان أم فقيراً، شعبياً أم ثمرة لثقافة عارفة. لا يوجد مخيال غير وظيفي شعورياً أو غير شعوري، فهو يشتغل من «بيته» السري، ويتحكم في مجمل تصرفاتنا حتى تلك التي يحكمها انضباط ثقافي أو أيديولوجي صارم. وهذا الميراث متحرك دوماً، ينطلق من الطفولة وينتهي مع نهاية الإنسان نفسه؛ أي أننا لا نتوقف عن التخييل حتى الموت.

لهذا، عملت النظريات النفسية الحديثة في المخابر العابرة العادية أو حتى العسكرية، على هذا الموضوع عميقاً، من خلال محاولة التحكم وشلِّ الإرادات الداخلية للبشر. الرهان الأكبر والنهائي هو الاستيلاء على هذا المخيال لتسخيره وفق شهوات المستولي عليه ومصالحه، بحيث يستطيع أن يفعل بضحيته ما يشاء. تلعب الوسائط الاجتماعية اليوم، بسلطانها الكبير والمهيمن على كل مناحي الحياة، الدورَ الأهم في التحكم في الإرادات البشرية وصناعة الرأي العام. سِجْنُ المخيال وإحلال مخيال آخر في لاوعي الناس هو واحد من ممارسات الطغاة والثوريين الزائفين، الذين لم يعودوا يحتاجون إلى القوة بالمعنى التقليدي. الفاشيات ومؤرخو الكذب خلقوا سردية خاصة أدخلوها في ذهنيات الناس. لم تكن فكرة تفوق الجنس الآري إلا أحد أشكالها التي نبتت على ثقافة جرمانية «متفوقة» أعاد هتلر إنتاجها وإدراجها ضمن مشروعه. قبلها العبيد وسفن الموت التي خلقها تجار الرقيق البشري الذين كان عليهم إنتاج مخيال يجعل من ممارساتهم العنصرية أمراً ليس فقط مقبولاً ومستساغاً، لكن محبباً للارتقاء بالبشرية نحو التقدم. لم تكن سردية مقتل القائد الثوري «عبان رمضان» في الثورة الجزائرية إلا جزءاً من هذه السردية التي جعلت من الاغتيال والقتل والجريمة السياسية فعلاً ثورياً بخلق مخيال يندرج والمعطى التاريخي للثورة الجزائرية، يتلخص في «الإيثار» والموت من أجل الجماعة لتخبئة عملية القتل الذي قادها رفاقه. وكان من السهل تداول «الرواية الثورية» ولم تكتشف الحقيقة إلا بعد نصف قرن من نهاية الثورة الجزائرية.

ما قام به جان بول سارتر في هذا السياق، مهم ويستحق التفكير والتأمل. فهو يقترح مدخلين نقديين لتصورات هوسيرل في هذا السياق. أولاً، لا يوجد أي توصيف لجوهر الصورة مقارنة بجوهر التصور، إذ إن جوهر الاختلاف بين اللحظة التي يتخيل فيها المرء واللحظة التي يبصر فيها الشيء. ثانياً، يتعلق النقد بمادة الصورة الذهنية. لنفترض، كما يقول، في رأسي الحيوان الخرافي السنطور، هل صورة هذا الحيوان الأسطوري موجودة في دماغي أم خارجه، في الواقع الموضوعي. لهذا، يرى أن مفهومه ليس باعتماد فكر هوسيرل كلياً، لكن بافتراض نظرية مناقضة له. يجب ألا ننكر توحد الصورة الذهنية بالصورة الحقيقية الفيزيقية التي يسميها سارتر عائلة الصورة. الاختلاف مع هوسيرل ينشأ من خلال ما يفترضه هذا الأخير توازياً بين الملاحظة أو رؤية الشيء، والتخييل الذي لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل عنصر في تمايزه. هذا يظهر بوضوح عندما نتخيل شيئاً هو في الأصل افتراضي ومتخيل ينتمي إلى الأساطير، مثل الحيوان الخرافي السنطور. التخييل هنا ليس في حاجة إلى أصل مادي ومرجعي. وهذا يعاكس نظرية هوسيرل التي تفترض مرجعاً مادياً للتمكن من التخييل.

يجب أن تطرح القصدية كجزء من الموضوع، هذا النقاش الفلسفي أفضى في النهاية إلى موضوع أكثر جدوى من المرجعية على هاجس الحرية. كيف يمكن أن تصنع من شيء موجود أو افتراضي وجوداً كلياً يدخل في البنية ليصبح جزءاً منها. إذا أردنا أن نتخيل كائنات ألف ليلة وليلة، سنجد صعوبة كبيرة في رد الكثير منها إلى أصولها المرجعية، فكرة الجني نفسها تتصف ببعض المواصفات الاستثنائية فقط، لكن صورتها نتخيلها نحن أو وفق الإرادة النقدية التي أدخلتها في أدمغتنا عبر الحقب المتتالية، ويكفي أن نذهب لكتب الأطفال الذين اختاروا جزءاً من الليالي لندرك أنها تختلف جوهرياً من طفل لطفل، يلعب فيها الدور الحاسم الفنان الذي تخيل بحرية الشكل كما افترضه هو وتلقاه الطفل من القصة والصورة. وكلما كان ذهن الطفل متحرراً من المعوقات والمسبقات، كان التخييل قوياً. لكن هل يتلقى الإنسان اليوم الصور، في ظل وسائط الهيمنة، خارج النظم المسبقة؟ المخيال الطبيعي يتأسس على فعل الحرية، ولا يحتاج إلى مرجع واضح يحدد معالمه ويحد في الوقت نفسه من حرية التخييل. واحدة من أهم صفات التخييل أن يكون حراً بلا عوائق تحد من انطلاقه. فعل الحرية هو الركن الأساس من فعل التخييل، إذ بدون الحرية المطلقة، يظل الإبداع محصوراً في دائرة الواقع الموضوعي. لا يمكن تصور تخييل غني ومثمر بالمعنى الفني والأدبي، دون حرية تخرجه من قمقم الضغوط الاجتماعية الدينية والأخلاقية التي يتم من خلال حشو دماغه بها. عنصر الحرية حاسم.

وربما المعضلات الكبرى المرتبطة بالمصادرات والقمع الفني مرتبطة بهذا الفعل الذي قليلاً ما انتبهت له الدراسات الحديثة. أن تكون حراً يعني بالضرورة أن يكون مخيالك غير مقيد بضوابط المسبقات التي تؤسسها الدول والهيئات المختصة التي تحد من الحرية أو تهيكلها وفق ضوابطها، بحيث تستجيب للمعطى الاجتماعي. الدكتاتوريات العالمية لا تفعل في النهاية إلا هذا، الاستيلاء على المخيال العام وإعادة تصنيعه.

لقد تحكمت النازية، كما سبق أن أشرنا، في المخيال الألماني بوسيط مؤثر يعلي من قيمة إنسان مهزوم كان يحتاج إلى تصنيع مخيال جديد من عناصره التاريخية والثقافية، ليندمج في مشروع النازية. الأصوليات المتطرفة تصنع اليوم جنة على مقاسات الإنسان المهزوم فتفرغ الأفراد والمجتمع من كل معارفهم السابقة بحثاً عن المجتمع النقي، وتضع أمامهم بدائل تتحكم من خلالها في كل ما يريدون القيام به. مخاطر المخيال هي أنها يمكن أن تصل على مرحلة تشل فيها إرادة الإنسان كلياً بحيث يصبح إرادياً خاضعاً للمؤسسة المصــنّعة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي