رسالة مفتوحة إلى فيروز

2021-11-21

الفنانة فيروز (التواصل الاجتماعي)

ميشرافي عبد الودود

من حسن حظّ طفولتي الفقيرة في حيّ شعبي، أنني تعرّفتُ على صوتكِ بالصدفة المحضة، تماماً كما تعرّفتِ في حيّ البسطة البيروتي على عالم الموسيقى والأغاني، من خلال مذياع الجيران، الذي لن يتوقّف، لاحقاً، عن بثّ أغانيكِ منذ الصباح الباكر. سعيدٌ، بلا شكّ، أن ما حدث معكِ حدث معي، عندما كنت أجدني وحيداً في البيت، بسبب زوغان أمّي للجلوس مع باقي الأمّهات على العتبات، برفقة صوتكِ الذي أشفق على وحدة الطفل الذي كنتُ، زارعاً فراغها بشموسه وأقماره وبيّاراته، لإعفائها من عذاب الاستماع طول الوقت للباعة المتجوّلين بعربات الخضر، ينادون على البطاطا والجزر والكرنب والباذنجان، بفظاظةِ أصواتهم الممطوطة التي كانت تذرع الأزقّة بحرّية، مخترقةً جدران البيوت، لتذكيري في كلّ لحظة بضجري في الداخل. لكن بمجرّد تعرّفي على نبراتكِ الصوتية، التي ترقِّق حروفها أرغفةً طازجة ملفوظة للتوّ من فرن بلدي، وتخلط بُنَّها الصباحي بتوابلها السرّية، تحوّلتْ على الفور نهاراتي الشاغرة إلى مضاءات مأهولة بأبجديتك النورانية التي صار فيها الصوت وحده المعنى والمبنى. وكان مذياع الجيران يستريح بين أغنية وأغنية للتذكير باسم المغنية، ليظلّ اسم "فيروز" يتردّد، في أذني كلّ مرة، عنواناً عصيّاً على النسيان، بزركشته السماوية المحفورة بالبُنّي الأرضيّ المحبّب. كأنما أبقيتِ، كتذكار حيّ من طفولة الفتاة الوديعة نهاد حداد، على هذا الحجر الخجول وحده الذي عثرتِ عليه ربما، لمّا كنتِ تجمعين الحجارة الملوّنة أثناء جولاتكِ المعتادة في ضيعة الجدة. وبسبب وجود الفاء والياء في أوّل هذا الاسم، ظلّت تَنْرَسِم بلا نهاية ملامحُ الوجه في مخيّلتي، فيءَ شجرة تنتصب في بداية العراء كمحطّة أخيرة، ملوِّنَةً حفيف ظِلالها المنبسطة بفرشاة أجنحة العصافير الوافدة والمغادرة من الجهات الأربع للضوء.

المسافة بين المدينة والضيعة جملة موسيقية تختصرها أغنيتك

عندما سافر أخي الأكبر إلى الخارج لإكمال الدراسة، ترأّفت حياته الجامعية رغم ضيق ذات اليد، بإرسال حقيبة صغيرة من الهدايا للعائلة رفقة مهاجر قديم من الجيران. وكان من بين الهدايا مذياع مستعمل لا يزال بحالة جيدة، ماركة ألمانية عتيدة، تشاجرنا أنا وأخي على حيازته، ولمّا علت أصواتنا، تدخّلت الوالدة وأخذتِ الجهاز المشغَّل ورفعته بيدها عالياً، صائحةً: "هذا الراديو هدية للعائلة كلها، وليس من حقّ أحد!".

وبقي المذياع مرفوعاً في يدها لحظة غير قصيرة، مُشَغّلاً على نفس المحطة، وخُيّل إلينا، بينما كنا نرفع عيوننا المندهشة، كأننا أخطأنا بأنانيّتنا وغبائنا في الرغبة بامتلاك ترجمان الأثير. ثم وضعتْ الجهاز على الرف بهدوء، وانفرجت أسارير وجهها عن ابتسامة عميقة مواربة قبل أن تقول: "علامَ تتشاجران أنتما الاثنان؟ متى تستمع أنت إلى فيروزك؟ متى تستمع أنت الآخر إلى أم كلثومك؟ بخجل أجبنا في آن معاً بنفس الصوت الخافت: "بالنهار! ــ بالليل!"، وبدا أنّ كلماتها لا تفضّ شجاراً عرَضيّاً على المذياع بقدر ما تلملم انقسام الشقيقين بين الصوتين بمسحة سريعة من حنانها: صوت أم كلثوم الذي كان ينحاز إليه أخي وصوتكِ الذي أحبُّه. ولأن عدد ساعات الليل يساوي عدد ساعات النهار، ظلّ هذا الراديو على الرفّ، يذيع، بالتساوي أيضاً، فيروزيات صباحاتكِ وسهرات أم كلثوم.

واقتنع الأخوان المتشاجران أخيراً بأنْ لا داعيَ لهذه المشاجرات على اختلاف الليل والنهار، طالما أنّ صوتكِ الفيروزي المُنْشَقّ بطبيعته أجراساً من اليقظة المنبِّهة الدائرة على المتململين تحت خيمة النهار المفتوحة من كلّ الجهات، والصوت الكلثومي المرجعيّ نافذة تضيء ليل الساهرين ومرضى الأرق تحت سقوفهم الإسمنتية. والفرق بين اليقظة والأرق، بوجود الفارق الكبير بين ضوء النهار وضوء الكهرباء، يجعل المقارنة مستحيلة بين الصوتين. لأن تطريب أم كلثوم تعطيلٌ للزمن من أجل الوقوف على الأطلال، وإيقافٌ لآهاته المتتالية المتسلطنة، على انتشاءٍ ماضوِيّ مستعاد، لا يني يتحسّر على أفوله، منذ المطالع الأولى للقصائد. بينما صوتكِ المَدِينيّ ــ أنتِ البيروتية ــ تشغيلٌ لهذا الزمن الغنائيّ الحاضر ولو كان غائباً، وتعاقبٌ لإيقاعاته الهدّارة الآتية وقَيْد الإتيان في آنٍ معاً، على نفس الوتيرة المتسارعة، وتيرةِ الإيقاع الجُبراني الذي "ينثر ما تَنْظُمه الحياة وينْظُم ما تنثره". حتى عندما تسترجعين لحظةَ انتظارِ الحبيب العابرة تحت المطر، لا يسرد صوتك ذكرى هذا الانتظار، إلّا باعتبار هذه الذكرى حاضراً فوّارا مستمرّاً يستعصي على المرور والتكرار رغم السنين، وإصراراً بلا هوادة على تفجير الحبّ الباقي من وراء الصيف والشتاء، بشكل ملحميّ عاطفيّ أخّاذ، كما في أغنية "بأيام البرد والشّتي" ذائعة الصيْت. لأنه إيقاعُ النثر المَدِينِي الجانح في أقصى ذروته إلى الانتظام في سطر شعري، متسلسل، طويل، كسكّة الحديد، متجاوزاً العمران إلى ريفٍ لبناني متمدّن نوعاً ما، يوجد على الضواحي والأطراف، لا يحضر كخلفيّة للزينة أو للحنين، بل كامتداد للشجر والحجر والبشر، ما يوحي دائماً بأن المسافة بين المدينة والضيعة جملةٌ موسيقية مؤشِّرة، كعلامات الطريق، تختصرها، برشاقة وخفة، أغنيتكِ المترحِّلة في الأبهاء.

طريقتك الأثيرة في تهريب النهارات المولودة للتوّ برقصاتها

وبينما واصل أخي الاستماع إلى أم كلثوم ليلًا، بشكل فرديّ مذْنب قليلاً، مواظباً على أخذ حصص الأرق الإضافية التي أضرّتْ بعمره الإعداديّ، واصلتِ تعليمي ــ بصرامة الأخت الكبيرة والمترئِّفة في آن معاً ــ بالاستماع كلّ صباح إلى صوتكِ، بشكل جماعيّ مُبهج، رفقة العائلة والجيران، كمُلْتحق جديد بطليعة الكشفيّة الرحبانية في أعلى الجبل، للتدرّب، أوّلاً، قبل تعلّم أبجدية الانتماء إلى الإنسان والوطن، على اختبار الاستيقاظ مبكّراً لتلقّف أنفاس الحرّية المنعشة برئةٍ سليمة. وكنتُ كلّما تقدّمتُ شوطاً جديداً في الاستماع إلى صوتكِ المنبّه، يتلو بنبراتِ نواقيسه المحفِّزة سِفْر يوميّاتنا، المدوَّنة، ببراعة، بتفاصيلها الدقيقة والفائقة، بشكل غير مسبوق في مدوَّناتنا الغنائية العربية، كلّما تقدمتُ ربع ساعة إضافية، بالتبكير في الاستيقاظ والتحفّز والنشاط، إلى أن استقرّ جرس صباحي على الخامسة، كجائزة على مواظبتي وحُسن سيرتي وما عناه لي هذا التيقّظ من الانخراط في حركة الكون والفنّ منذ صحوتهما الأولى، بسبب امتلاك هذه الفسحة الفيروزية الكافية من الضوء والزمن للمرور على الخبّاز، لاقتناء أقراص الخبز الطازج، وإعداد القهوة للجلوس للإفطار السعيد، قبل القيام بواجبي المدرسي، مُشَغِّلاً جهاز الراديو على الرفّ، واضعاً أصبعي بنعومة على الزرّ المُدَوَّر، وعيني على الإبرة المرتجفة على اللوح الأمامي. ولم أكن أبحث عن محطّات إذاعية بعينها، بقدر ما كنت أحاول مرتجفاً أيضاً التقاط صوتكِ الذي كان يفاجئني دائماً، بوجوده على مرمى أنملة أو اثنتين، ما يضطرّني للرجوع بالإبرة قليلاً إلى الوراء، طالما صار مع الوقت "المحطّة 2"، المزروعة بيديكِ، تلك التي خلقها انتظار المبكِّرين في صباح العالم. وحالما كنتُ ألتقط صوتكِ السلسبيلي الشُّرُوقيّ النقيّ، يبلّلني إحساسُ هذا الكشاف المتمرّن الذي يباشر يومه باكراً جدّاً بطقوس الاغتسال في مياه النبع المتدفّقة من أعلى الجبل، مُزيحاً قشرة الضباب بيده الصغيرة عن نقاوتها وصفائها، ومُزيلاً في نفس الوقت الغشاوة عن عينيه المفتوحتين للتوّ.

من تجربة الاستماع البسيطة هذه أختزلُ التالي: الولد الذي كان يتدرّب على وحدته بالاستماع، على مذياع الجيران أوّلاً ومذياع العائلة لاحقاً، لتأثيث رفوفها الفارغة، إلى مَن كانت بدورها تفعل الشيء ذاته، متدرِّبةً أيضاً كراعية وحيدة تجرِّب اختبار صوتها بالغناء في البرّية حتى لا يبتلعه الهواء، قبل أن تصير مغنّية مشهورة؛ يؤكّد فرضيّتي بأن صوتكِ قادمٌ من لا مكانٍ، ولا أعني شيئاً آخر غير الأثير. ولعلّ مَن يُجمعون على الإطلاق عليكِ لقب "الصوت الملائكي" ــ إذا صحّ أن حفيف أجنحة الملائكة يملأ سقف الكون ــ لا يقصدون سوى أنّكِ صوتٌ أثيريّ، من الأصوات العُلوية النادرة التي تغلّف قشرة الأثير، نقَل مستمعاً عربياً عانى طويلاً من إطباق موسيقى الحِداد الكلاسيكية على أنفاسه، لأوّل مرة، في عرباته المهرولة، بحمولات وهدايا الفصول، إلى فضاء الأغنية المفتوحة والممنوحة في الحركة والضوء والهواء، مبشِّراً بأسلوب "الموسيقى ــ التي ــ تحفر السماء" بتعبير بودلير، على طريقة زوبعتك الفيروزية المتصاعدة من الأسافل إلى الأعالي، مُشَفِّفةً بالتدريج غبارها وقشّها المخلوطين بالزرقة والضياء. طريقتكِ الأثيرة في تهريب النهارات المولودة للتوّ برقصاتها المدوِّية الصاخبة، لإكمال ولادتها، ومرافقة حرائقها المشتعلة في حصائد لبنان حقلاً حقلاً ــ لتخصيب تربة البلد المتعبة في نهاية الصيف ــ حتى انطفاء آخر قشّة، عند اكتمال العرض الساحر، متعهدةً أمام جمهور المزارعين: "بكرا برجع بوقف معكن/ إذا مش بكرا البعدو أكيد" كأنما تعتذرين لهم من إهمال الدولة وتأخّرها في تأمين بذورِ موسمٍ فلّاحيّ وشيك، متأسّفةً بصمتٍ وأنت تلوّحين لهم بيدك أن نهاراتكِ المهرَّبة بحرائقها منذورة سلفاً لهذا الانطفاء، حتى يظل الانفجار حيّاً فقط في الذاكرة والقلب، كمدفأة تجتمع العائلة حول باقتها المشتعلة في "ليالي الشمال الحزينة". لأنكِ أصررتِ طوال مسيرتكِ المديدة الإصرارَ ذاته، على توصيل شعب الركّاب الصاخبين والمرحين بشكل قوقازيّ على "هدير بوسطة" مهترئة لا تني تتفكّك قطعُ غيارها وتتلاحم في اهتزازاتها القويّة المُمَوْسقة على طول الطريق، بغضّ النظر عن دافعي التذكرة أم لا، بوجود هواءٍ لبنانيّ واحد "يصْفِق" الجميع بلا تفريق، كما في آخر الأغنية. ودائماً كنتُ أشعر (بأسىً ربّما) أنني واحدٌ من هؤلاء الركّاب.

في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر من كلّ سنة، لا وقت لديكِ لفتح الرسائل المزدحمة ببطاقات المعايدة، طالما أن طوابع البريد، للأسف، في بلداننا العربية مختومةٌ بالدم؛ لذلك لا تفتحين ــ أنتِ الجالسة لاحتساء قهوتكِ الصباحية ــ باب حديقتك الصغيرة سوى للعصافير المزدحمة على شجراتها من جميع أرجاء البلد لإلقاء تحيّة الصباح الندية وتمنّياتها لكِ بعيد ميلاد سعيد. وليس بمقدوري سوى ضمّ صوتي إلى أصوات جوقتها الخفّاقة المتهافتة... مُبْقياً، مثلكِ أيضاً، على انتظاري مفتوحاً على الرفّ، بجوار مذياع العائلة الذي لا يتوقّف عن بثّ فيروزياته، حتى تعود الفصول، فصولنا المتعطّلة، إلى فتح مكاتبها البريدية الأربعة، بطوابع جديدة وسُعاةِ بريدٍ جُدُدٍ يتعجّلون أكثر في إيصال أملٍ مغمىً عليه من الإجهاد بالدرّاجات، معتذرين عن إبطاءِ وتأخّر خدماتهم بسبب سوء أحوال الطقس.

بدوري، أعتذر مسبقاً عمّا ورد في هذه الرسالة المفتوحة من تقصيرٍ أو ارتباك، وعذري أنني مدفوعٌ كفقير يسارع إلى مكتب الكهرباء لتسديد أقساط فواتيره المتراكمة، فكيف بتسديد قسط ولو صغير من فواتير ضوء النهار؟

كل عام وأنتِ بألف بخير.

كاتب من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي