الصُدفة قَدَرٌ يعبث ويلهو!

2021-11-20

غادة السمان

لو لم أشاهد صور أبطال الحكاية وبطلتها الأولى «سمكة بيضاء» لما صدقت خبراً قرأته في مجلة فرنسية (كلوسر) ـ العدد 843 مع الصور. فقد كانت سيدة أسترالية وزوجها الغطاس يسبحان حين لاحظ الزوج ناثان أن خاتم الزواج انزلق من إصبعه وضاع بين الأمواج. وبعد عامين من ضياع الخاتم، وجدت سيدة سمكة بيضاء صغيرة تحيط بها حلقة ذهبية هي خاتم الزواج الذي أضاعه ناثان! واصطادت السيدة السمكة واتصلت بهما بعدما قرأت الاسم على خاتم الزواج الذهبي، وكانت مصادفة تكاد لا تصدق: العثور على خاتم الزواج الذي يحيط بسمكة بيضاء في البحر الشاسع.. بعد عامين من ضياعه!

الصدفة أم الإهمال المفيد؟

حين تخرجتُ من الجامعة السورية أهداني أبي ساعة ماسية من ماركة سويسرية شهيرة وثمنها 15 ألف دولار، وكنت سعيدة بها حين انتقلت لمتابعة الدراسة في «الجامعة الأمريكية» في بيروت. وتلقيت يومئذ دعوة لزيارة تونس وحضور المهرجان المسرحي الذي يقام فيها. ولم أتردد في قول نعم، ولاحظت أن بطاقة السفر تمر في روما حيث تبدل الطائرة، وذهبت إلى «الروشة» البيروتية واشتريت حقيبة سفر قماشية زهيدة الثمن، وألصقت اسمي وعنواني يومئذ عليها في مجلة «الحوادث». وحملت فيها بعض ثيابي البسيطة لأن المهرجان التونسي سيقام في شاطئ «حمامات». وفي اللحظة الأخيرة، رميت ساعتي الثمينة الهدية من أبي، إلى علبة (الماكياج) كأي قلم شفاه بدلاً من وضعها في علبتها الجلدية المزينة بماء الذهب. وحين وصلت إلى تونس، لم أجد حقيبتي، وشكوت ذلك إلى شركة الطيران وطلبوا عنواني في تونس وفي بيروت، إلى حيث سأعود فيما بعد، وكنت أعمل في مجلة «الحوادث» كما ذكرت، وكان مقرها في «كورنيش المزرعة» في بيروت.

حقيبتي ضاعت في مطارات العالم

لم تصلني حقيبتي، وتدبرت أمري في تونس بمعرفة الأستاذ سيسيل ج، واستعرت ثياباً لابنته! وعدت إلى بيروت وأنا آسفة على ضياع حقيبتي والساعة الألماسية فيها. ومرت عدة أشهر، وكدت أنسى الحكاية حين جاء موظف من شركة الطيران إلى مجلة «الحوادث» يحمل لي حقيبتي القماشية زهيدة الثمن، وقال إنها دارت مطارات العالم بسبب خطأ يحدث! ويا لها من مصادفة أن ألتقي الحقيبة القماشية إياها، وذهلت حين وجدت ساعتي الألماسية حيث رميت بها في علبة (الماكياج)! كما ذهل موظف شركة الطيران الذي حمل لي الحقيبة. كانت مصادفة لا تصدق؛ لأن أحداً لم يقم بالاستيلاء عليها.

الساعة الألماسية والصدفة

وارتديت الساعة الألماسية الهدية من أبي، وذهبت يومها إلى مقهى (الهورس شو) الشهير في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان يلتقي معظم الأدباء والصحافيين، فجاء أحد الأدباء وقال إنه لا يملك المال لشراء هدية زواج فخمة كساعتي (وكنت أرتديها) لكن عروسه تحبه ويريد تقديم هدية أمام أسرتها كما تقضي التقاليد، راجياً أن أعيره الساعة الألماسية وسيعيدها إليّ بعد زواجه. والغريب كما قالت لي الصديقات، أنني وافقت وأعطيته الساعة، وقلن لي: إنه لن يعيدها لي بذريعة ما. ولكنه أعاد لي الساعة بكل أمانة بعد زفافه واستعراضها أمام الأهل كما تقتضي التقاليد!

الساعة ومحتال جنيف

تعطلت الساعة التي عادت لي بصدفة لا تصدق. ولما كنت أزور جنيف للمرة الأولى لمدة ثلاثة أيام لتحقيق صحافي، انتهزت الفرصة وذهبت إلى بائع المجوهرات الذي يبيع ساعات كهذه ويصلحها مجاناً، وأعطيته ساعتي لتصليحها، فقد توقفت عن العمل، وقال لي إن ذلك سيستغرق أسبوعاً، وقلت له إنني عائدة إلى بيروت، فأعطاني إيصالاً ليعطي الساعة لمن أعطيه الإيصال. وفعلت ذلك حين التقيت أحد أصدقائي المقيمين في جنيف وسيزورون بيروت، وعرض عليّ حمل الساعة لي بعد تصليحها. ووافقت شاكرة وأعطيته الإيصال. وحمل لي الساعة إلى بيروت. وكانت أمانته هذه صدفة (وهو المحتال) أدهشت الجميع. لكنني أخط هذه الكلمات وأنا أرتدي تلك الساعة الألماسية هدية أبي، فالمغامرة بضياع ما نحبه خير من دفنه في خزانة أحد البنوك!

خاتم الزواج والسمكة البيضاء

عودة ساعتي مصادفات منطقية، أما ما حدث لصاحبة الخاتم الذهبي الذي أحاط بإحدى الأسماك في البحر، فحكاية غرائبية؛ ففي البحر مليارات الأسماك. لذا، لماذا وجدت الصديقة السمكة بالذات التي تحمل حول جسدها خاتم الزواج؟ الحياة كلها أسرار، ومن يتوقع قدرته على إجابات منطقية حول كل شيء لا يخطئ فحسب، بل سيجد حياته حكايات مشابهة.

مصادفة عاطفية غريبة!

كنت أجلس وصديقة قديمة في مقهى بيروتي حين دخل رجل وسيم طويل القامة مع أحد أصدقائه وعرفته، فهو الزوج السابق لصديقتي التي أُجالسها. ونظرتْ إليه كأنها لا تعرفه، وحييته بهزة من رأسي، ولكنه غادر المقهى فوراً. وسألتها: لماذا لم تحيي زوجك السابق بعد انقضاء عشرة أعوام على طلاقكما ونسيان ما كان؟ أقسمت لي بأنها لم تعرفه. كانت قد أحبته حباً مجنوناً قبل زواجهما، لكنه خانها وأساء معاملتها وأقسمت يومها بأن تطلقه وتنساه، وقلت لها: لا أحد ينسى رجلاً أحبه. ولكن ذلك يحدث فيما يبدو، لأنها حقاً لم تعرفه! وكان دخوله إلى المقهى صدفة، والدليل على أن العقاب بالنسيان هو أقسى أنواع العقاب. إنها ببساطة لم تعرفه.

ولن أخفي كدري من امرأة عاشرت رجلاً عاماً من الزواج وأذلها وخانها وقهرها، وها هي تنتقم منه بإلغائه من ذاكرتها.. أي بالنسيان. وهذا أقسى انتقام. إنها ببساطة لم تعرفه.

فهل مر بهذا المقهى على سبيل المصادفة ليثبت القدر قدرته على اللهو بمشاعر البشر وتعريتها لهم في آن واحد؟







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي