غرافيتي بانكسي: مخيلة ممتعة تزهر على جدار

2021-11-19

هناء عبد الخالق

«الفن وعد بالسعادة.. حتى لو كان هذا الوعد كاذبا» لا أدري لما داهم قول أدورنو تفكيري ومشاعري بعد الحماس لزيارة معرض «عالم بانكسي» في باريس، وبعد رؤية أعماله مجسدة على جدار وهمي لم يقصده بانكسي تحديدا.

والمقصود من هذا القول هنا هو أنّ السعادة الجمالية تأتي من قدرة الفنّ على منحنا متعة حسيّة تجعل من المتلقي، أو المشاهد عنصرا نشيطا فكريا وحسيا داخل التجربة الجمالية. فما يريده في الحقيقة هذا الفنان المتخفي أن يكون بطل المشهد الوحيد هو العمل الفني، وما يحمله من قضايا، وأن يكون هذا العمل متاحا في الشارع أمام كل الناس، لا أن تحدّه صالات العرض ومزادات البيع، فيكون تجربة فنّية متاحة للجميع.

كانت زيارتي لهذا المعرض «عالم بانكسي» جزءا من اختبار لمشاعري ورؤيتي بفعلٍ مُقارن للفن الغرافيتي، بين الذي عرفته على جدار عمارة منهكة ربما، أو على مفترق طريق فاجأني واستوقفني متأملة في المكان، وفي الفكرة المزروعة على الحائط والمشبعة تربتها ريا بشغف الفنان وقلقه، لإنجاز رسالة يفاجئ بها متلقيه. وبين أن أقصد مكان العرض لأطلّع على بعض الأعمال الصغيرة التي نفّذها بانكسي باستخدام الشاشة الحريرية في إصدارات محدودة، مع تنفيذ بعض الرسومات على الجدران بشكل مزروع بهدوء بتقليد لأعماله بشكل دقيق.

هنا نسأل أي معنى للسعادة الفنّية في أفق التسليع لفن الغرافيتي؟ فاللذة الجمالية التي يمنحنا إيّاها هذا الفن هي لذّة فكّرية تكمن سعادتها وفرحتها القصوى في عنصر المفاجأة، في تأمّل الانسجام بين الموضوع وغفلة المكان ضمن جمالية اللعب الحرّ للمخيّلة، وهذا يقود ربما إلى معنى الجمال بوصفه «موضوع إشباع بلا منفعة».

الفنان المشهور والمجهول

لا أحد يعرف من هو بانكسي، ومع ذلك الجميع يعرف من هو، هل يمكن أن يكون الفنان مشهورا ومجهولا في آن معا؟ يحرص بانكسي دائما على عدم الكشف عن هويته، وكل ما يُعرف عنه أنه فنان بريطاني من مواليد بريستول عام 1974.

بدأ رسم الغرافيتي في بريستول، في تسعينيات القرن الماضي، عندما التقى بشاب لُقِّب بـ (3D)، قادم من نيويورك، يقول بانكسي إنه كان أول من أدخل بخّاخ الرسم إلى مدينة بريستول الصغيرة. هذا المُلهم فتح عينيْ بانكسي على روعة فن الغرافيتي، ليلمع نجمه في أواخر التسعينيات محتلا شوارع ومدن العالم المختلفة.

غموضه لغز حقيقي، وتفرّد لم يحظ به أي فنان في العالم. فكيف لفنان أن يبتعد عن الأضواء لهذه الدرجة، تاركا شهرة أعماله العالمية بلا صاحب؟ ربما التهرب من السلطات أحد التفسيرات في البداية، لكنه اكتشف في ما بعد أن عدم الكشف عن هويته أثار ضجة خاصة به لا تقدر بثمن من ناحية شهرته وتفرده. لكن هذا التخفي أصبح في مكان آخر جزءا من مصادرة حقوقه عندما خاض صراعا قضائيا طويلا مع «مطبعة» تقوم بتوزيع عمله الشهير «قاذف الزهور»، الذي رسمه بانكسي لأول مرة عام 2005 في بيت لحم، وبيعه في صورة بطاقات بريدية، بحيث أتى حكم مكتب الاتحاد الأوروبي للملكية الفكرية EUIPO آنذاك بأنه: «يمكن للشركة المصنّعة للبطاقات الاستمرار في استخدام الصورة» معللة ذلك في حكمها: «لا يمكننا إثبات أن بانكسي هو مالك العمل بيقين مطلق، لأنه هو نفسه مجهول الهوية».

يعمل بانكسي الآن دون غاليري يمثله وتتم عمليات بيع شبه سرية مع عملاء أثرياء محدودين، ما مكنه من الإنفاق على أعماله الأخرى الطموحة والضخمة.

هذا الفنان الشاب، لا يريد الالتحاق بالنخبة الفنية المتعارف عليها، بل يريد التجول حاملا رشاش الألوان، تاركا رسوماته على الحوائط في شوارع بريستول ولندن، لفئران وقردة وموناليزا تحمل قاذفة صواريخ. فعندما كان الرسم على الجدران جريمة وتشويها لممتلكات الآخرين، كان في ذهن بانكسي نداء المغامرة والإثارة. وعندما كان رسّاموه مجرد صبية مستهترين ومخربين، تطاردهم الشرطة، استطاع أن يزوغ عن الأنظار ويتخفى، لتصبح بعدها أعماله مطاردة من قبل المتاحف والمعارض.

الغرافيتي في قاعات العرض

شهدت مدن العالم رواجا بتنظيم معارض لهذا الفنان المشاغب، ولكنه دائما كان يبدي استياءه من هذا الواقع، فمفهوم الفن عنده كباقي رسامي الشارع قماشه الجدار والشارع معرضه الدائم. وهو الذي يريد لفن الغرافيتي أن يكون فنا ثوريا هدفه الأساسي الانحياز للشارع وعامة الناس، في مواجهة السلطات الرسمية التي تمثلها صالات العرض. يلاحق بانكسي جدران العالم وشوارعه، وينشر رسومه من لندن إلى غزة، لاهثا وراء الأحداث والأزمات السياسية. هو أحد المناصرين لحقوق الفلسطينيين، فاجأ الجميع بالتسلل إلى غزة المحاصرة سنة 2015، حيث رسم على جدرانها المهدمة من جراء القصف الإسرائيلي لوحات تضامنية. وكان قبلها بعشر سنوات قد رسم لوحات أخرى على جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة. لكن السؤال الأهم هل يحافظ الغرافيتي على وعده بالسعادة بعد نزع هذه الأعمال من مكانها؟ أو نقل نماذج منها إلى صالات العرض؟ أم السعادة الحقيقية تكمن ببقائها مغروسة في بيئتها ومندمجة فيها؟

ليس من الواضح كيف يفكر بانكسي نفسه إزاء هذه القضية، غير أنه انتقد مرارا عالم الفن التقليدي بما فيه من متاحف وصالات عرض الأعمال الفنية. وكدليل على إدانته بيعت لوحاته بهذه الأسعار المبالغ فيها، أعلن بانكسي لاحقا عن وضعه آلة لإتلاف اللوحة ذاتيا داخل إطارها في أحد المزادات. ربما يكون في موقف بانكسي من الاتجار بأعماله الفنية ما يبرّره، لكنّه يطرح علينا أيضا العديد من الأسئلة المشروعة اليوم التي تخصّ فنون الغرافيتي، ورسوم الشارع أكثر من غيرها. إن إدخال هذه الأعمال إلى قاعات العرض، لا يستقيم والفلسفة التي قامت على أساسها هذه الأعمال، طالما دعا بانكسي إلى وجود صلة مباشرة بين الفنان وجمهوره على أرض الواقع الحقيقي.

يعمل بانكسي الآن دون غاليري يمثله وتتم عمليات بيع شبه سرية مع عملاء أثرياء محدودين، ما مكنه من الإنفاق على أعماله الأخرى الطموحة والضخمة. وإذا عدنا إلى بداية القول إن الفن وعد بالسعادة، فالمتعة الجمالية تمنحنا سعادة اجتماعية، من خلال قدرة الفن على اختراق الحدود التقليدية، فيكون بمثابة بناء فضاءات عمومية تجمع بين الناس، وترتقي بهم إلى مستوى القدرة على اقتسام قيم ذوقية تشرّع لهدف جماليّ يجمعهم.

الفن الغرافيتي يقود ويعكس ويعرّي التغيير في السياسات والأخلاق العامة. كما أنه حجر الأساس في عملية خلق الثقافة. هو فن متدفق بالأفكار، في وسعه إرسال رسائله متجاوزا الزمن واللغة وحدود الأمكنة. هو ينشد الإنسانية المشتركة، ويصل المجتمعات اليائسة ببعضها بعضا. هو فكرة تبحث لنفسها دوما عن جدار لتينع فيه وتزهر. فدعوا هذه الأعمال لرغبة أصحابها والهدف منها، دون وعد كاذب أو مشوّه للسعادة، فمنزلة العمل الفني الغرافيتي تكمن في قيمته والتوتر الناجم عنه، ما يضفي المعنى على الفنّ، وعلى علاقته بالمجتمع.

أكاديمية وتشكيلية لبنانية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي