الرّجل الذي يظهر في الصّورة

2021-11-14

الرجل الذي يظهر في الصورة (التواصل الاجتماعي)

عيسى جابلي

كانت الجنازة تتقدّم بي إلى المقبرة مرفوعاً على الأكتاف. كنت سعيداً، لولا ولولة النّساء والأطفال ودموع الرّجال. وكنت مسروراً لأنّ الرّجل لم يعد يظهر لي في الصّورة!

في زمن بعيد لم أعد أذكره، وقفتُ أمام كاميرا مصوّر المدينة. استويت. التقط لي صورة لبطاقة هويّتي. بعد التّحميض نظر إليّ ودهشة تسيل من وجهه. دخل إلى حجرة التّصوير مسرعاً. مسحها بعينيه كمن يبحث عن ذكرى ضائعة. عاد إليّ:

- لنُعد الصّورة من فضلك!

استويت مجدّداً...

- هذا عجيب! قال.

ثمّ أردف بعد أن لحظ حيرتي:

- انظر!

ثمّ، وهو يريني الصّور ويشير إلى خلفيّة إحداها بسبّابته:

- ثمّة رجل يظهر في الصّورة!

تأمّلت الصّور، فإذا في الخلفيّة رجل واجم يبدو عليه تعب وتسهيد، وعلى محيّاه آثار من قطع الأرض مشياً.

وجمتُ. ارتبكتُ. هممتُ بالهرب. تماسكتُ. طلب إليّ الهدوء. أخذ فيلمًا جديدًا. ركّبه في آلة التّصوير.

- لنُعد الصّورة.. قال.

استويتُ مجدّداً و.......

- هذا غريب!

وتابع وهو يتأمّل الصّور الجديدة:

- إنّه هنا مرّة أخرى!

صمتَ قليلاً ثمّ أضاف:

- منذ خمسين عاماً وأنا ألتقط للنّاس صوراً. لم يحدث معي هذا مطلقاً.

أعاد إليّ النّقود قائلاً:

- آسف يا بنيّ..

هوّن عليّ والدي الأمر. قال لي:

- هذا أمر طبيعي.. دومًا ما يكون هناك أشخاص يظهرون في الصّور.

وقالت والدتي:

- ثمّة أرواح تعاكسك..

وحسم والدي الأمر:

- لا تكترث بهم. لن يظهروا لك مجدّداً.

من الغد، كنت أمام عدسة أخرى. كان قلبي يدقّ كمن ينتظر حتفه المحتوم. سحب المصوّر الصّور الجديدة، ونظر إليّ فزعاً. كان يشير بإصبعه إلى خلفيّة إحداها.

- هذا غريب! ثمّة رجل يظهر في الصّورة!

تأمّلته. كان بالهيئة نفسها. الغَبَرَة الدّاكنة على شعره ولحيته الشّعثاء تزيد ظلمة عينيه سوادًا.

في البيت عثرت على صورتين قديمتين لي. عدّلتُ ملامحي وفقهما كي لا يتبيّن ضابط الشّرطة أنّها قديمة.

سررتُ بأن قبِلها، غير أنّ ملامح الرّجل الّذي يظهر في الصّورة لم تفارقني. كنت أعتصر ذاكرتي بحثاً عنه، غير أنّني لم أذكر في حياتي أحدًا يشبهه.

حسبتني في حلم. كنت أختلي أحياناً لأفرك عينيّ وأحرّك رأسي بعنف وأفتح فمي بكلّ ما أوتيت من قوّة وأصفع وجهي بيديّ..

أفتح عينيّ، فإذا الأشياء كما عهدتها. لست في حلم إذن، ولكنّ الحقيقة أيضاً أنّ هنالك رجلاً يظهر في الصّورة!

أهداني والدي يومًا هاتفًا.

كنت في حديقة عموميّة رفقة صديقتي. كنت أريها آخر صور الطبيعة التي التقطتها.

إثر قبلة طويلة كنّا خلالها نمشي فوق السّحب، قالت:

- اقترب، لنلتقط صورة تخليداً لهذا الموعد.

استوينا باسمين قبالة كاميرا هاتفي الأمامية. كنت أضغط زر التصوير عند كلّ وضعيّة جديدة. ثمّ انغمسنا في الهاتف نشاهد الصّور. كانت ابتساماتنا تملؤها جميعاً، كما يملأ خلفيّة كلّ منها رجل يظهر في الصّورة!

صُعقنا لمّا رأينا ملامحه الخشبيّة والمكان خال إلاّ من سوانا!

- من الرّجل الّذي يظهر في الصّورة؟ قالت.

- من الرّجل الّذي يظهر في الصّورة؟ قلتُ.

كنّا نحتفي بذكرى زواجنا الخامسة عشرة التي توافق ميلاد ابنتنا. كان عمرها أربعة عشر عاماً حينها. جلست بيننا، وقد وضعت على وجهها قناع رجل غريب ضاحكة. ضغطتُ زرّ التّصوير، فإذا نحن في الصّور جميعها نضحك، بينما في الخلفيّة يظهر الرّجل الّذي يظهر في الصّورة!

لا شيء تغيّر في هيئته سوى تجاعيد برزت من جبينه وتحت عينيه وشعر أشعث أبيض حاصر وجهه من كلّ الجهات..

كانت تصلني ولولة زوجتي وابنتي الّتي تجرّ ولدها الصّغير خلف الجنازة بخطى ثقيلة. كنت في ذلك الصّندوق الخشبيّ المحمول على أكتاف الرّجال أضحك عاليًا في صمت لم يعد يسمعه الآن إلاّ الرّجل الّذي يظهر في خلفيّة الصّورة. كنت أضحك لأنّني أخيرًا قد صرتُ...

تحت نخلة ما، في صحراء ما من صحارى هذه الأرض، كان شابّ ما يضمّ إليه صديقته وفيضٌ من حبّ قد انفجر من أعينهما وابتساماتهما. يستعدّان لالتقاط أولى صورهما معًا. لمّا شاهدا خلفيّتها صُعِقا، فأخذت أضحك في صندوقي الخشبيّ المتين لأنّني أخيراً قد صرتُ الرّجل الّذي يظهر في الصّورة..

كاتب من تونس، والنص صدر منذ أيام ضمن مجموعة قصصية بعنوان "أرى أصواتاً في الزوبعة" عن "الدار التونسية للكتاب".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي