ميشيل فوكو بين إضاءة الهوامش ورهانات الحقيقة

2021-11-02

 ما يميز فوكو هو حفرياته النادرة والغريبة في حقول المعرفة

أوس حسن*

لعل الحديث عن عصر ما بعد الحداثة فيه الكثير من التشابك والغموض لأولئك الذين اعتادوا أن يروا الأشياء بمنطقها الصوري الثابت، أو يُخضعوا جميع الإشكالات للعقل ومركزيته في الوجود، حيث التناقضات تبقى في مسارها متنافرة، دون أن تلتقي، بينما تشكل التشابهات نوعا من الكتلة المعرفية لفهم الأشياء أو الظواهر.

إن المتاهة الحاضرة في لعبة فوكو هي محاولة دائمة للإفلات من قبضة العقل الهيغلي، والقبض على رهانات الحقيقة المبعثرة بين الهوامش وخلف الكواليس.

إن ما يميز فوكو هو حفرياته النادرة والغريبة في حقول المعرفة، وتحليله لمركبات السلطة وأنساقها عن طريق الخطاب السائد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، فإذا كان فوكو هو وريث نيتشه الحقيقي في مفهوم الجنالوجيا، التي تفسر كيفية نشوء المعرفة، وإعادة تقييم لكل القيم، إلا أن الأركيولوجيا عند فوكو هي الغوص

في أعماق معارفنا، والنبش في وثائقها من أجل الكشف عن حقائق لا مفكر فيها، أو مهمشة في الحقول المعرفية، أو عن طبقة سحيقة في اللاوعي الإنساني، أدت إلى بزوغ ظاهرة معينة، أو اكتشاف علمي ساعد على الانتقال من مرحلة معرفية مغلقة إلى مرحلة معرفية أخرى أكثر اتساعا وتطورا من سابقتها، وعلى أساسها تبنى حقائق جديدة.

حفريات فوكو ليست مجرد سرد لتاريخ الأفكار، وليست تدوينا للتاريخ على طريقة المؤرخين والحكائين، إنها اللحظات الأكثر إشراقا في عصرنا لتأسيس أنطولوجيا للحاضر.

«حفريات المعرفة»

يعد كتاب «حفريات المعرفة» الذي ألفه ميشيل فوكو عام 1969 من أهم الكتب التي اكتشفت لنا الأنظمة المعرفية، وسياقات الفكر في كل حقبة من حقب التاريخ، كما هو معروف فإن التاريخ وفقا للمنظرين والمؤرخين هو عبارة عن امتداد أفقي، وسلسلة متصلة من الحلقات، لكن التاريخ عند فوكو هو عبارة عن تصدعات وانشقاقات، وقطيعة بين حقبة وأخرى، وهذا ما ساعد فوكو في الحفر المعرفي في كل مرحلة من هذه المراحل،

عن طريق الكشف عن الشبكات والاستراتيجيات التي تشكل نظاما داخل الظاهرة التاريخية، من خلال دراسة اشتراطات وجودها في تلك المرحلة وتحليل تشكيلاتها الخطابية السائدة. فالحفريات تهدف بالأساس إلى اكتشاف الأنساق الأساسية في ثقافة ما، من خلال البنى الخطابية وقوة حضورها في المجتمع العام.

يعتمد فوكو في حفرياته وتحليله للأنظمة على مفهوم الخطاب، ويقصد بالخطاب مجموعة الممارسات التي يقوم بها الإنسان في سياق وضع تاريخي معين من أجل معارف تتعلق بالذات والسلطة والمعرفة، أو باختصار هو نمط الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية السائدة والمسيطرة في فترة من الفترات التاريخية.

يتردد مفهوم السلطة كثيرا في مؤلفات فوكو، ويرى أن السلطة هي التي تنتج الخطاب والمعرفة، فهو لا يقصد بالسلطة السلطة السياسية فقط، وإنما يذهب في تعريفه لمفهوم السلطة إلى أبعد من ذلك، لتشمل المؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية، والسجون والمستشفيات، التي اعتبرها مراكز مهيمنة لإنتاج الخطاب.

حتى الخطاب المضاد للسلطة عند فوكو هو سلطة أخرى تعتمد على أنساق وثوابت يمنع الخروج عليها. إذن فلا يمكن تحليل أي نظام معرفي في فترة معينة من الزمن إلا بتفكيك الخطاب ودلالته، بوصفه مجموعة من الرموز التي ينفتح عليها العالم.

ما هي الاستراتيجيات التي استخدمها فوكو في تفكيك الأنظمة المعرفية للحقب الزمنية؟ وما نوع الخطابات التي لجأ إليها في القطائع المعرفية بين فترة وأخرى؟

«الكلمات والأشياء»

لعل كتاب «الكلمات والأشياء» الذي ألفه فوكو عام 1966 سيجيب على جزء من تساؤلاتنا وحيرتنا أمام فيلسوفنا المشاكس، حيث يقسم الأنظمة المعرفية ويفصلها عن بعض كدوائر مغلقة، وهذه الأنظمة هي عصر النهضة، والعصر الكلاسيكي، والعصر الحديث، ويطلق على النظام المعرفي لكل حقبة مفهوم (الأبستيم) والأبستيم هو عبارة عن نظام معرفي مغلق غير متصل، تتبين من خلاله طريقة الحياة وشروط المعرفة، ويضيء الرموز التي تشكل جوهر لغتها بكل ما في هذه اللغة من تحولات وتقنيات وأسلوب للممارسة الحياتية.

فالابستيم هو مبدأ مستقل عن الخطاب أو الوضع الذي تتخذه المعرفة في حقبة محددة. يدرس كتاب «الكلمات والأشياء» نشوء المعارف الإنسانية انطلاقا من الشبكة المفهومية للمعارف، وسيتم من خلال ثلاثة مجالات.. اللغة، البيولوجياوعلم الاقتصاد.

ففي عصر النهضة كان أبستيم التشابه هو السائد في مجال الفكر والمعرفة، فهي التي تحدد تأويل النصوص، وتسمح بمعرفة الأشياء، وتقوم بعملية التصوير والتمثيل باعتبارها تكرارا دائما ومستمرا، وكانت اللغة في ذلك العصر تستخدم فقط لوصف الأشياء، ولم تكن بذلك الثراء اللفظي الذي يؤول وينتج المفاهيم.

وأبستيمية التشابه تعتمد على أربع صيغ وهي، التوافق والمنافسة والقياس والتعاطف

فالعالم هو التوافق الكلي بين الأشياء، وهناك تشابه هائل بين العلاقات وفي صيغ الوجود والتعبير عنه. أما في العصر الكلاسيكي فلم تعد المعرفة تتحرك في فضاء التشابه بل مع مجيء رائد العقلانية ديكارت، أصبح هناك مجال للخطأ وحلت التضادات مكان التشابهات وأصبح هناك مجال للتصنيف، وتحديد موقع كل عنصر من عناصر المجموعة وعلاقته بالعناصر الأخرى. ومع تطور علم الأحياء والاقتصاد لم تعد اللغة تحمل سمة الأشياء وتوقيعها، بل أصبحت أداة للتصرف في الأشياء، فالأبستمية في العصر الكلاسيكي تحولت من نظام للفكر إلى نظام للوجود.

    لم يهمل فوكو الذات الإنسانية ومصيرها في هذا العالم، بل دعا إلى العودة للتأمل الباطني العميق لمعرفة الذات، والاهتمام بصحة الجسد من خلال التمارين والتغذية وساعات النوم، كما أكد على ضرورة التخلص من القيود الاجتماعية والأسرية والفكرية والمجاهرة بقول الحقيقة، والتصرف بعفوية خارج هذه القيود

أما العصر الحديث فيصفه فوكو بأبستيمية اللإنسان، ففي عصر النهضة وعصر الكلاسيكي وما حدث بينهما من قطيعة معرفية، لم تدع مجالاً للإنسان أن يفكر بالإنسان، ولم يكن هناك أي وعي أبستمولوجي بالإنسان، نجد أن العقلانية في العصر الكلاسيكي كانت مجرد آلة جامدة، استخدمت الإنسان كأداة للمعرفة والفكر، نازعة عنه كل روح للتأمل الباطني في كينونته ومصيره، لكن

مع تطور العلوم والاقتصاد واتساع اللغة في ميادين العمل والسياسة، نجد أن الإنسان يقف وحيدا أمام معضلته الوجودية حائرا أمام السؤال المصيري والمتكرر، من أنا؟

تاريخ الإقصاءات/ الجنون/ الجنس/ العقوبة

تكمن أهمية ميشيل فوكو في الفلسفة المعاصرة في تسليطه الضوء على أكثر المناطق عتمة وتهميشا وإقصاء في تاريخنا المعرفي، فكتبه «تاريخ الجنون» و»تاريخ الجنسانية» بأجزائه الثلاثة و»المراقبة والمعاقبة» هي عبارة عن مجموعات من الحفريات لاستخراج ظواهر المسكوت عنه، كحقائق دامغة تلغي المراكز الحيوية في التاريخ والمعرفة، ففوكو هو فيلسوف الهوامش بامتياز.

في كتابه «تاريخ الجنون» في العصر الكلاسيكي يتتبع فوكو ظاهرة الجنون في العصر الوسيط، عندما كان المجنون تحيط به هالة من القدسية والبركة، إلى العصر الكلاسيكي الذي أصبح فيه الجنون جرما وخطيئة، فكانت هناك دور عزل كبيرة للمجانين ولم يشمل ذلك المجانين فقط، بل تعداه إلى أكثر من ذلك، فحتى المرضى والخارجين عن القانون والمشردين والمتسولين تم عزلهم في تلك المحاجر، ومورست بحقهم أفعال لا إنسانية، لكن مع تطور العلم والطب النفسي في العصر الحديث، تم تشخيص الجنون كمرض عقلي يتوجب علاجه من قبل مختص أو معالج نفسي.

يركز فوكو كثيرا على الجسد بوصفه أداة بيد السلطة، ويتجلى ذلك في كتابه «المراقبة والمعاقبة» و»تاريخ الجنسانية» فميلاد السجن والعقوبة والقمع الجنسي هي إكراهات تمارس على الجسد لإخضاعه والسيطرة عليه كليا، حتى المريض والمنهمك في الأعمال الشاقة يفقد السيطرة على جسده، وينقاد للسلطة وخطابها العام، فالسلطة تمارس عنفها الناعم دائما لإخضاع الجسد بوصفه مركز النشاط والحياة.

من أهم الآراء التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفكرية، هي نظرة فوكو إلى الفرد كفرد، حيث يلغي فوكو مركزية الإنسان تماما عن هذا العالم، وحتى في ما يخص الاكتشافات العلمية وعناصر الإبداع الفنية الأخرى، حيث يرى فوكو أن كل القوانين والمعرفة العلمية كانت كامنة في الأشياء، ولا يعود الفضل لأحد في اكتشافها، لكن تاريخا من الإكراهات والعنف والمحو الذي تمارسه السلطة وخطابتها، أخرت ظهور هذه الاكتشافات العلمية والنظريات، لكنه كان يدرس هذه الظواهر لحظة تجليها وخروجها من أعماق اللاوعي الإنساني إلى الوعي عند هؤلاء الأفراد.

لم يهمل فوكو الذات الإنسانية ومصيرها في هذا العالم، بل دعا إلى العودة للتأمل الباطني العميق لمعرفة الذات، والاهتمام بصحة الجسد من خلال التمارين والتغذية وساعات النوم، كما أكد على ضرورة التخلص من القيود الاجتماعية والأسرية والفكرية والمجاهرة بقول الحقيقة، والتصرف بعفوية خارج هذه القيود. فيرى فوكو أن كثيرا من الأمراض الاجتماعية تكمن في عدم التعبير عن الرغبات الدينوسية وإظهارها لسطح الوعي.

تطابقت حياة فوكو كثيرا مع فلسفته وآرائه، بل إن معظم هذه التجارب نبعت من تجاربه الشخصية، كالجنون ومحاولاته للانتحار في بداية شبابه، عندما أودع المصحة العقلية، كذلك زيارته للغرف المظلمة التي يمارس فيها الجنس الجماعي واللواط، إضافة لولعه الكبير بالسادية والتعذيب الجنسي.

توفي ميشيل فوكو عام 1984 متأثرا بإصابته بمرض الأيدز، بعد أن ترك لنا تورطا كبيرا في اللعبة الفلسفية ونسقا جديدا في التفكير والمغامرة.

 

  • كاتب عراقي

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي