الفردانيّة والتفرّد.. ما بين المبدع والمتلقي

2021-11-01

د. جمال حسين علي

سنبدأ بأبطال شكسبير، الذين امتلؤوا بتأكيد ذواتهم، كطريقة لترسيخ الحياة.. وتحديدًا هاملت وماكبث.. اللذين أطلقا «الفردانية» في عصر النهضة القائمة على إضفاء الطابع المطلق للذات البشرية، عن عدم كفاءتها، واستحالتها، وهلاكها المأساوي.

كل شخصية كهذه في تأكيدها الذاتي غير المقيّد كانت تريد قهر كلّ شيء في العالم، لكن مثل هذه الشخصيات لم تُوجد بمفردها، فهناك الكثير منهم الذين يريدون جميعًا تأكيدهم الذاتي المطلق، ومن ثم، بداية الصراع بين الشخصية الواحدة، صراع ليس له نهاية.. حتى الموت.

معظم الجبابرة في الفلسفة والأدب ومن ثم في السياسة والفكر وعلم النفس والاجتماع، ماتوا في الصراع من أجل تكريس الحق في وجودهم المستقل.

إن عصر النهضة، أشعل شرارة التنافس المرير وتغلغل بعمق في جوهر الإبداع، لتبدأ في تلك الحقبة مآسي المصائر التي غطّت عليها جماليات ذلك العصر المهيب، لتظهر دراماتيكيات الانتحار والجنون في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلى ما يبدو من الصعب على القرن الواحد والعشرين السيطرة عليها.

مفهوم الفرد

ما هو الفرد.. وما هي خصوصياته؟

تستند الإجابة إلى الأساس الأنطولوجي للإنسان، أي كيف تم تكوينه من وجهة نظر الوجود وما هي هياكله وعناصره الأساسية، هذه الحقيقة المعقدة تبدأ بالأسئلة التقليدية إن كانت الفردانية تتعارض مع العالم من حولنا وارتباطها بالأشياء كخارج وبالروح كداخل، ضمن الإطار العام للوجود، والتي من خلالها تظهر «طبيعتنا» المختلفة عن المخلوقات والكائنات الأخرى.

وهنا تشير الفردانية إلى وحدة ملموسة غير مجزّأة، تساعدنا على التفريق بين الكائنات، وهو اختلاف يحدث بالفعل في الوجود. وباتباع هذا المنطق، فإن الإنسان هو وحدة في ذاته، وبالتالي كونه فرداً، فهو يمتلك تلك القدرة على تمييز نفسه وفصلها عن الآخرين وحتى عن نظرائه.  

أين تكمن الفردانية؟

في كل من الإنسان وكائنات الجسم الأخرى، في الذرة، في الجزيء، في النبات، في الحيوان، الفردانية لها جذرها الوجودي الأساسي. وهذا الواقع تؤكده فرديتنا التي ترجع إلى المادة والروح، في حين أن المهم في «تفرّدنا» هو تحديد الخصائص الشخصية التي ستحسم في النهاية اختلافنا على المستوى المادي والروحي والجمالي والفكري وغيرها، وبما أن للشخصية جذرها أو أساسها الوجودي، فسوف تمتلك صفاتها ونقاط ضعفها.. بالرغم من أن «الفردية المادية» قد تزوّد الإنسان بوحدة ميتافيزيقية معينة، فإنها وحدة ضعيفة، لأنه بفضل القوانين الطبيعية للمادة، التي تتحقق بوضوح في الإنسان، فإنها تميل إلى التفكك، وبالتالي تفكك الكائن البشري. 

الفرد والشخصية

لذلك، تأتي الوحدة الكبرى والأكثر كمالاً وتكاملاً من الروح، لأنها الوحيدة التي تستطيع التغلب على هذا الضعف ووضعه في المنطقة الأكثر ملاءمة لها.

باختصار، سيأتي التغلب على هذه الصعوبة من الاعتراف بالوجود الشخصي للذات البشرية، وهو جانب حلله بشكل أعمق المتقدمون باختصاصات تعنى بدراسة التكوين الداخلي للإنسان، والذين تساءلوا مثلنا في البداية: هل الإنسان «فرد حصري»؟ ولكي يتجنّبوا أو يحترموا الأخطاء العلمية والتناقضات المحتملة، اعتبروا أن هذين ليسا شيئين منفصلين. ففي الواقع لا يوجد ما يُسمى «فرديتي» وشيء آخر اسمه «شخصيتي» لأن الكائن هو نفسه وليس فرداً في شخص آخر.

الفرد المُميّز

لكن في المقابل، كلّ إنسان فريد من نوعه وتحدده الحقائق الجوهرية والخارجية من خلال الحقائق المادية للعالم والتفاعل البشري والمؤشرات النفسية والجسدية الخاصة به، مثل الإبداع أو الاستقبال والاستعداد الأدبي وفقاً لأفق خبراته. كما أن التفرّد، سمة من سمات الإنسان، له أيضاً أهمية ما يمكن أن نطلق عليه: «براءة الاختراع الفردية»، وهكذا فالتفرّد - من وجهة النظر هذه - ستحدده الظروف الزمانية والمادية، من خلال أفقها الخاص

كأحداث وتجارب، وهبتها التجريبية الخاصة والاستدلال الفريد وغير المتكرر مما يجعل الفرد يجرّب ويفكر بطريقة مميزة بالنسبة للأفراد الآخرين. ويمكن للإنسان الفرد أن يكون الفرد السياسي، الفرد الاجتماعي، الفرد الاقتصادي، الفرد الرياضي.. لكننا سنركز هنا على الفرد المميّز؛ أي في الفردانية البشرية الاستثنائية بإنتاجها.

السمات السيميائية

لن ندخل في جوهرية الأدب أو تعريفه، فنحن نميل إلى أن يُفهم الأدب في مفهوم الفطرة السليمة: نص، لغة معينة، مع حسّ دلالي وبعض أشكال النوايا الجمالية، أو صدمة أو اضطراب للحواس النفسية وحتى الجسدية للإنسان.

النص الذي يتم إنتاجه وتسلمه أيضاً، وهو سمة من السمات السيميائية للفرد.

من ناحية أخرى، يُعدّ العمل الأدبي استثناء، ولكن مثلما يتكون الجسم من عناصر جسدية، فإن علامات العمل الأدبي الكاملة تتكون من عناصر سيميائية. ولكل فرد ميزاته وخصائصه، كما لكل متلقٍ عناصر استقبال خاصة، ولكل استقبال قوانينه الخاصة الفردية المتدفقة من العناصر السيميائية المتلقاة.

بالتالي، العمل الأدبي الكامل - قصيدة، رواية، قصة... إلخ - له نسيج مناسب من الإشارات، وفقاً لمرشح المتلقي، لتوضيح العلامة الكاملة للعمل. بينما، بالنسبة للمؤلف، يتكون العمل بأكمله من العلامات المتصوّرة. وبعيداً عن النية التأليفية ودلالاتها، بتقدم المتلقي أم لا، وفقاً لقدراته على استهلاك النص واللوحة والقطعة الموسيقية والمعمار والشريط السينمائي وما إلى ذلك.. ووفقاً للأنماط، من بين أمور أخرى، مثل الانتباه والذوق والتحيّز الفكري التي تسمح باختيار النسيج السيميائي ومدى ملاءمته.

 ويمكن اعتبار هذه العوامل كالبارامترات في الرياضيات والفيزياء، ليتحول المتلقي وفقاً لهذه الأنماط، إلى جزء من العمل؛ ليشكّل نسيجاً مختاراً للوصول بالمنتج الإبداعي إلى أقصى غاياته. 

وعاء المادة اللفظية

يمكن أن تكون عناصر العمل الإبداعي جملاً، موضوعات، عبارات، وكلمات، يحدد المتلقي الفرد العناصر ذات الصلة، والمكونات، لقضايا تلامسه شخصياً وفقاً للأشكال فوق الصوتية من التعبير. ويشترك مع الكاتب والرسام والمخرج والموسيقار في تأليف العمل الإبداعي.

وبالتالي، فإن المتلقي، بصفته «هدية بشرية» أو مستهلكاً سيميائياً، يُعدّ وعاء المادة اللفظية الوهمية كفرد، لأن الاستقبال فردي. لذلك، من الناحية الرسميّة، فإن التجربة السيميائية الأدبية غير قابلة للتحويل. لذلك يكون الاستقبال فريداً وغير قابل للتكرار.

بالمعنى الدقيق للكلمة، سيكون هناك العديد من التفسيرات لما يتم إنتاجه، كما ستكون هناك مستقبلات، سيكون هناك العديد من البشر مثل الأفراد، سيكون هناك العديد من الأفراد مثل السيميائية نفسها.

التمثيل بالخيال

وفي علاقة السيميائي - والفردانية، للجهاز النفسي للإنسان أهميته، فهذه الاستقبالات المختلفة، للمتلقي الفردي، تعتبر فريدة بحد ذاتها وتشكّل مع ذلك أغلبية تفسيرية.

 يمكننا القول إن هذا التجريد الكمي يحدد المعنى الراسخ أو الخيالي أو التمثيلي للعمل الأدبي. ولنفترض أن تفسير جَمْهرة ما طغى على النتيجة السيميائية التي وضعها المجتمع الأكاديمي.

هنا تكمن روعة الإبداع التي عاشت عليها «التجريدية» والأنماط التكعيبية المختلفة لغاية التدخلات الرقمية الحديثة في الفن.. فمن بين كل التجريديين يمكننا التوصل إلى تجريد أكبر: تفسير النقد العام، والذي سيكون مفيداً للتوضيح وترسيخ مبادئ نقدية جديدة وتفسيرات تقبّلية.. دعونا نطلق عليها: تمثيل العمل الإبداعي بمساعدة خيال أيّ منا.. تماماً كما أقنعتنا الحكايات بالبساط الذي يطير وبالخيول الطائرة ومغامرات أليس في بلاد العجائب وأمير إيكزوبري الصغير، وغيرها من الحكايات الراسخة في تاريخ

الأدب التي نسينا سجلها الخيالي وسوابقها بافتراض نوايانا التي جعلتها تشبه الحقيقة في وعينا الحرّ.. وبعد أن حرّرنا العملية السيميائية وتركناها تستقر مع الأمتعة الأخرى للذاكرة في خيالنا النفسي والعصبي الخاص، حيث جرى ذلك بفضل الدلالة التمثيلية والقدرة الصادقة للأدب، في تشكيل لغة الخيال.. أي، المعنى نتاج

للخيال السيميائي، إذا كان المعنى موجوداً في الجهاز النفسي التخيلي ليتجاوز الشعور بالوحدة الإبداعية، في منظومة استقبالنا.

وبذلك يؤسس الخيال، في صفته المحاكية، وصفاً أو تفسيراً غير مباشر للواقع، عند المؤلف والمتلقي على السواء، وأنه، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون مخالفاً أو توافقياً.

العلم والأدب والفردانية

العلم يكتشف الكون ويقوّي الإنسان، في حين جعلت التكنولوجيا الحياة أسهل وتستمر في جعل ما لا يمكن تصوره ممكناً.

وترسم الدراسات الاجتماعية تطور المجتمع على أسس مختلفة، وتوجهه نحو تقدم أكبر. بصرف النظر عن تنمية الحساسيات الجمالية والتمتع بها.

هل يمكن للآداب والفنون بمجملها المساهمة بشكل مباشر في فهمنا للحياة وقدرتنا على تعزيز تقدم المجتمع؟

إن الأدب فن إبداعي، لكنه ليس مجرد ترفيه. إنه يعكس الحياة. يصور قيم وتطلعات الناس والمجتمع، حتى الجو السياسي، والوضع الاقتصادي، والمواقف الاجتماعية في العصر. يمكن لفكرة واحدة جيدة من كتاب أن تلهم الأفراد لأعمال عظيمة. يمكن للكلمات القوية أن تطلق شرارة الثورات. يمكن للقصص الملهمة أن تطلق حركات اجتماعية تقدمية أو تحفز النقاش والإصلاح في جميع أنحاء العالم. وغالباً ما يكون الخيال هو رائد الابتكار التكنولوجي، حيث يتحدى الإنسان لتحقيق ما يحلم به.

الأدب يعكس التاريخ ويرقى بالحاضر ويخلق المستقبل، والأدب العظيم حقيقي في الحياة. الكُتاب العظماء هم رواد الحياة الذين يكشفون من خلال الكلمات حقائق خفيّة تتعلّق بشخصية الإنسان وطبيعة الحياة.

الرؤية الفريدة

ويوفر الأدب رؤية فريدة لعملية التطور التي تحكم تقدم المجتمع والحضارة والثقافة. إنه يُهيئ عمق اختراق أكبر من السرد التاريخي أو السيرة الذاتية لأنه يمكن أن يصور الوعي النفسي والاجتماعي الذاتي للشخصيات وزمنها بعمق، لذلك يمكن أن يكون مكملاً قوياً للتحليل الموضوعي والأحداث الخارجية، فالأدب ولد من عزلة الفرد

ولكن لديه القدرة على تفتيت عزلة الآخرين.

لقد حاولنا اشتقاق رؤية للعلاقة ما بين الفردانية والتفرّد الخاص للمتلقي والمبدع وربطها بتطورنا كمجتمع بشري وأيضاً بتطور الشخصية البشرية، ودور الفرد المتطور في عملية التقدم الاجتماعي والتغييرات الدراماتيكية في القيم الاجتماعية والمواقف والسلوكيات وما يشهده العالم من عدوانية جامحة كانت على الدوام تهدد استقراره وسلامه منذ أن بدأ الإنسان الرسم على جدران الكهوف، كان يعبّر عن نفسه بطرق لا تعد ولا تحصى.

 لقد تغير قماشه بشكل لا يمكن التعرف عليه، من التسلسل العلوي الحجري إلى عرض الكريستال السائل اليوم. لقد تطورت الوسيلة وتنوعت، من فن الخط البدائي إلى اللوحات الرائعة، من الهيروغليفية الخام إلى الشعر والنثر المتدفق. بغض النظر عن الشكل أو الوسيلة، فإن حاجة الإنسان إلى التعبير عن نفسه قد أنتجت كنوزاً ذات قيمة كبيرة، يعتبر الأدب جزءاً ثميناً منها، فالقيمة الجمالية للأدب راسخة ومقدَّرة منذ زمن طويل.

قيم المعرفة

نحاول مجدداً عبر مشروعنا الثقافي المستمر التركيز على قيم المعرفة العميقة والدقيقة للحياة والمجتمع والطبيعة البشرية. هذه المعرفة ذات أهمية كبيرة للإنسانية اليوم وهي تُتَلمّس لتتشكل بوعي مستقبلها.

والأهم من ذلك كله هو البصيرة التي يقدمها الأدب في أكثر الإبداعات البشرية قوة وحيوية، الفرد ودوره في تطور المجتمع.. فالأدب ليس مجرد انعكاس للخيال الخصب للمؤلف فحسب، بل يعكس الحياة نفسها، بتصويره قيم وتطلعات الناس ويوفر نظرة ثاقبة فريدة لعملية التطور التي تحكم تقدم المجتمع والحضارة والثقافة.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي