أمبرتو إيكو: الويب، هو الغيبوبة الكحولية الأكيدة!

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2010-01-17
أمبرتو إيكو

حاوره: كاثرين بورتفين- فرنسا. ترجم الحوار: جيلالي نجاري*

بشهية القارئ النهم، يجرد أمبرتو إيكو ويختزل وينتقي.. أهو على شاكلة الأنترنت؟ نعم، ولكنه يصفي.. فخطر الشبكة العنكبوتية، حسب المثقف الإيطالي، يكمن في التراكم العشوائي لأي شيء ولكل شيء مما لا يسمح بفرز الخطأ من الصحيح وذلك ما يفضي بالجميع وكل على حدة إلى تشكيل موسوعته الخاصة. ألا تأمل في التخلص من كتبك؟ بهذا التحذير المتصدر لحواراته الشيّقة مع كاتب السيناريوهات جان كلود كاريار "منشورات غراسييه" ينبهنا لموقف أمبرتو إيكو: "لا تنتظروا التحاقه بمن يرددون ويكررون جماعيا نهاية الكتاب أو القراءة. فعلى مشارف الثمانين، يعلن هذا السيميولوجي المرموق، الروائي، عاشق الكتب، الجامع، المنبهر بحماقة الإنسان وعبقريته كليهما، بعد أن حلق لحيته ولكن الشبيه بالموسوعة الحية، المرح، الخارج عن المتعارف عليه. خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني سينزل ضيفا على متحف اللوفر، أين سينشط برنامجا مدوخا "معارض، حفلات، محاضرات" حول مفهوم "القائمة"، أسلوب لامتلاك العالم وللتمتع بتعدده ومخالفة نظامه. إذا كان لابد أن نتعاطى مع هذا العقل الكوني من خلال قائمة؟ المذكرات، الشهية، الفضول، المعرفة، المخيال، الواقع، الكلمات، النظام والفوضى، وما إلى ذلك.

* لقد صرّحتم: "الكتاب قد أثبت جدارته ولا يمكن أن نبتكر شيئا آخر أفضل منه"، ولكن في العمق، ما هو الكتاب؟ هل هو شيء؟ هل هو صفحات للقراءة؟ هل هو سند؟ هل هو نص؟
- الكتاب هو سلسلة من الصفحات والنصوص و/ أو الصور المجتمعة بتقنية معينة تسمح للتصفح بأن يكون ممكنا، هذا هو هيكل الكتاب. وقد تكون الصفحات من الرقوق أو من الورق الخشبي مثلما هو الحال اليوم، فهذا ليس بالأمر الهام.

* وإذا كانت الصفحات رقمية يمكن تصفحها على شاشة؟
- سنبقى في هيكل الكتاب، الأي بوك [e.book] الذي يسمح بالتصفح والذي يُقَدُّمُ على أنه صيغة جديدة يجتهد لمحاكاة الكتاب إلى حد ما. وما دام في نقطة واحدة على الأقل، لا يمكن لهذه الصيغة أن تضاهي الكتاب، باعتبار أن الكتاب الورقي مستقل بينما الكتاب الرقمي وسيلة غير مستقلة في جانب الكهرباء. كان بإمكان روبنسون كريزويه القراءة لمدة 30 سنة وهو في جزيرته النائية بقراءة إنجيل غوتنبرغ فقط. ولو كان ذات الإنجيل مرقمنا، فإنه لم يكن ليقرأه أكثر من ثلاث ساعات وهي مدة صلاحية البطارية. بالإمكان رمي كتاب من الطابق الخامس والعودة إليه كاملا في الأسفل. ولكن حين نلقي بالأي بوك، فبكل تأكيد سيدمر كلية. بإمكاننا اليوم قراءة كتب تعود إلى 500 سنة. بالمقابل لا نملك أي دليل على ديمومة الكتاب الإلكتروني لأكثر من ثلاث أو أربع سنوات. في كل الحالات، إنه من المعقول أن نشكّ، نظرا لطبيعة المواد المستعملة، أن يدوم الكتاب الإلكتروني ويحافظ على نفس القوة المغناطيسية لخمسمائة سنة. بالنسبة لي الكتاب اختراع لا يمكن تجاوزه مثله مثل العجلة أو المطرقة أو الملعقة.

* حقا ولكن ما الذي كان يؤكد، منذ زمن غوتنبرغ، ديمومة الحبر، الورق والطباعة؟
- لم يكن هناك صحافيون يطرحون أسئلة بهذا الشكل. اليوم وقد وُجِدُوا فإننا يمكن أن نجيبهم: الكتاب منذ عهد غوتنبرغ ما يزال موجودا وأستطيع القول دون أن يساورني أدنى شعور بالخطأ بأنه سيبقى بعدي... وبعدك أنت أيضا. بإمكان "الأي بوك" أن يحذف بعض أصناف الكتب والوثائق. الأربعون جزء من الموسوعة التي تحتاج إلى غرفة إضافية في الشقق الحالية بكل تأكيد انتهت. يستطيع أن يقضي على تقوس ظهر أبنائنا الذين جرجروا خلفهم كيلوغرامات من الكتب المدرسية. سيحصلون على موليير و قواعد النحو على حواسيبهم المحمولة. ولكن لا شيء يمكنه أن يلغي حب الكتاب في حدّ ذاته. لقد غير التصوير من إلهام الرسامين، ولكنه لم يقتل الرسم، وكذا الأمر مع التلفزيون إزاء السينما. لماذا تريدون تخيُّل الكوارث المطبقة.

* شكرا لطمأنتكم لنا، دعنا نهمل السيناريو الغبي القائل باختفاء الكتاب والقراءة معا، أنتم ترون عكس الذين يتنبأون بنهاية "مجرة غوتنبرغ" مع عصر الأنترنت بل ترون بأن هذه التقنية تعيدنا إلى اللجج الأولى، لماذا؟
- إن إنسان الأنترنت هو نفس إنسان غوتنبرغ لأنه مضطر للقراءة وكثيرا، إن الأمر الذي أتاح ثورة المطبعة هو انتشار المقروءات، الأنترنت يتيح نفس الأمر أيضا، الناس يقرأون ولربما بأسرع وتيرة من أسلافهم إذ ينتقلون من موضوع إلى آخر. في تصوري أن الأنترنت يشجع قراءة الكتب لأنه يضاعف الفضول، هناك إحصائيات تشير إلى أن الذين يشاهدون التلفاز كثيرا "ولكن بموضوعية" والذين يبحرون كثيرا على شبكة الأنترنت "ولكن ليس إلى حدّ قضاء الليل كله في المواقع الإباحية" هم هؤلاء الذين يقرأون كثيرا.

* ألسنا ـ بالمقابل ـ نتعامل مع الكتاب من باب المقدس، وكأنه الوسيلة الوحيدة الحاضنة للحقيقة وللثقافة؟
- أنا منبهر بالخطأ ومأخوذ بالعلوم الموازية والأفكار الخاطئة ومجموعة كتبي التي أملك بمكتبتي تدور كلها حول هذه المحاور. أؤكد لكم بأن الكتب تحتوي على الأخطاء بنفس المقدار الذي تتواجد به في غيره، إن الأمر الذي يشكل الثقافة ليس الحفظ وإنما هو الانتقاء والتصفية. وهناك الكثير من الصدف في كيفية وصول المؤلفات إلينا. إننا لن نعرف أبدا ما إن كان ضمن الملفوفات التي أُحرقت في مكتبة الإسكندرية مؤلفا إنسانيا عظيما يفوق روائع هوميروس وشعريته. يشير أرسطو إلى كُتَّاب تراجيديا لا نعرف عنهم شيئا.. من يضمن لنا بأنهم لم يكونوا أفضل من يوريبيدس وأن سوفوكليس لم يكن سوى مجرم حاذق استطاع أن يستولي بفضل أصدقائه المتنفذين على مسيرة وشهرة لا يستحقها؟ المؤشر الوحيد الذي نملك هو ذكر أرسطو لهؤلاء الكتاب التراجيديين المختفين اليوم. لي كبير الميل في الاعتقاد بأنهم كانوا أصحاب عبقريات حقيقية وأن كاتبا قد كتب في يوم ما نفس كتبوا. إن ثقافتنا هي بالمحصلة نتاج ما تبقى من تصفيات عشوائية كالحرائق الإرادية واللا إرادية والمصادرات والخيبات والضياع...

* إنكم تشيرون إلى أننا اليوم بمواجهة ذاكرة مليئة بالتناقضات. لقد صرحتم بأننا نعتقد بامتلاك الوسائل الكفيلة بأرشفة المعرفة العالمية عبر وسائط افتراضية، غير أن هذه الوسائط لا تضمن الديمومة وأننا لا نعرف حتى ما الذي يجب تخزينه. هل نحن أمام إشكالية التصفية؟
- إن مشكلة التصفية هي أكبر مشكلات عصرنا. إن علاقتنا بالذاكرة يمكن أن تحيلنا على "فوينس"، تلك الشخصية النسّاءة المتخيلة من طرف بورخيس. ومثلما هو يتذكر كل شيء فإنه بذلك يصبح مجنونا وغبيا. إن الأنترنت هو بحق فضيحة الذاكرة التي لا تنتقي، حيث لا يمكن التمييز بين الوهم و الحقيقة. بالمحصلة هذا ينتج عنه مسح للذاكرة. إن الثقافة أمر يمكن تقاسمه والتحاور بشأنه. إن ما يمكن تسميته بـ "المجموعة" يمكننا التوصل إلى التفاوض من أجل الاتفاق على التخلي عن بعض الأعمال وبعض الأفكار العلمية لصالح أخرى. بل إن إحدى أكبر وظائف الثقافة هي فرض تقاسم المعرفة جماعيا. هذا لا يعني إطلاقا استاطيقية هذه المعارف. ولكن حتى ضرورة إعادة النظر فيها أو حتى الثورة عليها لا يمكن أن يحدث دون قاعدة المعرفة المتقاسمة: لم يكن بإمكان كوبرنيكوس مثلا الإقرار بأن الأرض ليست في قلب الكون إلا بعد قبول نظرية بطليموس التي كانت تقرُّ العكس. هناك ذاكرة أو ما يشبه موسوعة "لاروس" المعتمدة من طرف الجميع، حتى وإن كانت لشيخ في السبعين أكثر ثراء من تلك التي لشاب في الخامسة والعشرين. يمكن اعتبار الأنترنت في النهاية تفتيتا لموسوعة "لاروس" المشتركة بين ستة ملايير موسوعة، كل فرد يشكل موسوعته الخاصة به ويصبح بإمكان الواحد أن يفضّل حسب أهوائه بطليموس على كوبرنيكوس أو تاريخ تطور الأشكال. نحن بصدد مواجهة خطر اللا تواصل التام وانتفاء العلم الكوني.
بالطبع، ستتواصل أشكال المراقبة التقليدية خاصة في المدرسة ولكن ستدخل أكثر فأكثر في الصراعات مع المطالب الخاصة.. إن المطالبة بموسوعة خاصة هي عين الخطأ، إن الثقافة قائمة لمنع أصناف "بوفار وبيكوشيه" من الانتصار.

"الويب، هو الغيبوبة الكحولية الأكيدة! نسميها الشبكة وهي حقا كذلك. شبكة عنكبوتية ومتاهة"

* لقد أعددتم برنامجا معارضا، ومحاضرات باللوفر حول موضوع "دوخة القائمة" ولقد كتبتم بأن الويب، هذا الفهرست الضخم، يمنح بالضبط الدوخة الأكثر غموضا والأكثر افتراضية؟
- بل الأكثر اضطرابا والأعتى دراماتيكية. إنه الفرق بين النوسان اللطيف الذي يمنحه قدحان من الويسكي والرجة التي توفرها زجاجتين من نفس المشروب. الويب هو الغيبوبة الكحولية الأكيدة. نحن نسميها الشبكة وهي حقا كذلك.. شبكة عنكبوتية ومتاهة.

* ألم تلاحظوا بأن قائمة [المواضيع الأكثر قراءة والأكثر تعليقا، الأفلام المشهورة ... إلخ] قد أصبحت متداولة على أوسع نطاق عبر المواقع كطريقة مميزة لتحليل المعلومات؟
- نعم، وإني أعتقد أن ذلك يوافق الرفض المتعلق بالحسم، وبالتنظير وبتراتبية المعلومات وهي خاصية الويب. يمكن اعتبار القائمة الوسيلة البدائية لتنظيم المعارف.. إننا نقبض بشكل انفعالي على العالم من خلال التجربة، أي أننا نعامله على شكل قائمة أكثر مما نتعاطاه على شكل نظرية. عندما يسأل طفل والدته: ما هي الزرافة؟ فإنها لن تجيبه بأنها من فصيلة الثدييات ومن عائلة الـ.... إنها تقول له: إنها حيوان ضخم له أربعة أرجل طويلة ولها عنق طويل جدا، لها قرون صغيرة على مقدمة الرأس و لطخات بنية على جلدها الأصفر. أي أنها تسرد قائمة ليست كاملة لكل خصائصها.. هذا يمكّنُ الطفل من التعرف على الزرافة بنسق أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بالتعرف على العقرب!. إن "القائمة" هي طريقتنا للتعرف على 80 بالمائة من الحقيقة. ما هي الشمس؟ ستقول لي: شيء لامع يطلع صباحا من المشرق ويغيب مساء في الغرب. هذا ليس تعريفا علميا ولكنه الطريقة الطبيعية التي من خلالها يتعرف البشر وحتى الفلكيين على كوكب الشمس.

* لقد أحببتم دائما "القوائم" والفهارس ... فهل هو جانبكم النهم والجامع؟
- لقد كنت دائما منبهرا بالتراكمات، بالترقيم والإحصاءات. عندما كنت شابا، لم يكن بإمكاني قراءة أي شيء من هذا القبيل. النصوص القروسطية ومؤلفات جويس شكّلت موضوعات أثيرة في دراساتي في فترة شبابي وهي مليئة بالقوائم. أنا استخدمتُ وما أزال كثيرا من هذه القوائم في رواياتي.

* القدرة الشعرية للقوائم هي أنها تنتهي جميعها بـ ... إلى آخره؟
- لا، هناك قوائم منتهية تماما وتقول "كل شيء هنا"، إنها قوائم عملية. في الحياة العامة يمكن أن تكون قوائم شراء المستلزمات. في الفن والأدب يمكن أن تكون ذلك "اللحن الجدولي" الذي ينشده لوبوريللو، خادم دون جيوفاني في أوبرا موزارت و الذي يعتبر قائمة عملية صحيحة للحقيقة: "كل النساء اللواتي عاشرهن دون جيوفاني". لقد قمت بعدهن وهناك بالضبط 2065 امرأة. إنها نتيجة مذهلة ولكنها رقم منته. فإذا كان دون جيوفاني قد توصل إلى إغواء دونا إلفيرا فإن ليبوريللو كان سيضطر لإعادة قائمته. وهنا تلاحظون بأن إعداد القائمة هو من مهام الخدم بينما الانتقاء فهو امتياز أرستقراطي. أخيرا، هناك القوائم الشعرية التي تنتهي بإلى آخره إذ أن هوميروس حين يعدُّ مطولا المحاربين في الإلياذة فإنما يقوم بذلك من أجل اقتراح اللامتناهي: "الكلمات تعوزني طالما الرجال هم بلا نهاية". أنا أبدأ ثم، "إلى آخره"، فبإمكانكم أن تكملوا لوحدكم...

* ولقد وجدتم "إلى آخره" هذه حتى في اللوحات؟
- أعترف بأنني لم أفكر في الأمر مطلقا ولكن وبما أننا كنا في متحف اللوفر، فإننا قد بحثنا عما يدنو من "إلى آخره" هاته. إنها لوحات تقترح تخييل ما هو خارج الإطار. مثلا، لوحة اعتلاء العرش "نابليون الأول" فرضت على دافيد تمثيل جميع النبلاء الذين حضروا – بعضهم يكون قد دفع له حتى يتم تثبيتهم على اللوحة – ولكن جمهوره يعرف بأن الكاتدرائية لا تتوقف عند أبوابها، لذا وجدناه يقترح الجمهرة التي تصل إلى غاية الشارع.

* ثم إن في العصر الحديث أصبحت القائمة شكلا من أشكال التحريض. هلا شرحتم لنا كيف؟
- على عكس هوميروس، الذي كان يعددُ لأنه لم يكن بمقدوره وضع كل شيء في الإطار، فإن المحدثين قاموا بإدراج قوائم بما هو خارج عن الإطار، أو الفائض، الصادم، المتنافر. لقد أصبحت القائمة وسيلة عالية الجودة لرفض النظام [نقصد السرياليين، كالفينو، جويس]. ويقال أن هذه القوائم العشوائية ابتدأت مع رامبو ومع ذلك الذوق المتجه نحو المتناقض الدال على العالم المعاصر. كان رابليه أكثر المجانين المولعين بابتكار القوائم ولكنها كانت دوما ذات موضوع معين: قوائم كيفية غسل المؤخرة، قوائم ألبسة كهنة دير تيلام... على العكس من ذلك كانت قائمة الأدب المعاصر تعنى بإعادة خلط العالم بعدما كانت في السابق تهتم بالجرد والتنظيم.

* هل هاوي الجمع الذي تمثلون يبحث عن التراكمات أم أنكم مثل شخصية جورج بيراك [Goerges Pereck] في "الحياة: كيفية الاستعمال" والذي أمضى حياته بحثا عن القطعة المفقودة من البوزل؟

* كيف يمكنكم ترجمة عمق مفهوم "إلى آخره"؟
- مثل الرومانسيين وكانط الأولي، هؤلاء الذين شعروا بالرائع السامي حين شاهدوا منتهى السماء المليئة بالنجوم. إن "إلى آخره" هو الروعة. وفي الحقيقة هي تعريف الله الذي هو أكبر إلى آخره في الكون.**

* كاتب من الجزائر
** من مجلة "تيليراما – العدد 3117

 
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي