الذات .. المجتمع والدولة

2021-10-16

ألان تورين

ألان تورين  -  ترجمة: عثمان لكعشمي

كان الارتياب من اعتبارية السلطة المَلَكية، خاصة في أوروبا القرنيْن السابع عشر والثامن عشر، بمثابة مبدأ مركزي للفعل السياسي. كان الحد من السلط والفصل بينها في قلب فكر الديمقراطيين الليبراليين، من مونتسكيو إلى توكفيل، وهو أمر ليس بغريب عن بلد كفرنسا، التي شهدت، إبَّان عهد لويس الرابع عشر، الشكل الأكثر تطرفاً للمَلَكية المطلقة.

غير أن هذه الوضعية كانت محط صراع، سواء من خلال نضال الحركات العُمالية التي أحلت صراع الطبقات في قلب آلية الفعل، أو من خلال نضال القوميات ما بعد الاستعمارية التي أحلت في هذه المكانة رفض وكره نموذج المُستعْمِرين، أو بالأحرى مساءلته، لذلك يجب علينا اليوم استبدال دعوة هذه النظرية الديمقراطية الضيقة، بالأخذ بعين الاعتبار قوتيْن متضادتيْن ومتكاملتْين، تُجابهان «السلطة الشاملة» في ظل عصر المجتمعات فائقة الحداثة.

تجيء الأولى، التي تجسد المقاومة الأقوى لكل أشكال السلطة الشاملة، من الدفاع عن الذات البشرية وحقوق الإنسان الأساسية. لعل الدعوة إلى الذات، أو على نحو أدق إلى التذويت la subjectivation، وكذا إلى الصراع ضد السيرورة المدمرة للتذويت la désubjectivation الملازم لها، هي قبل كل شيء عبارة عن رفض لكل مبدأ وحدة واندماج في فكر المجتمعات الحديثة وفعلها.

يطيب لخصوم هذه الدعوة أنْ يروا فيها مُحاولة أخيرة لإنقاذ حضور المقدس في المجتمعات فائقة الحادثة، في الوقت الذي غدت فيه الأديان التوحيدية ضعيفة بواسط عَلْمَنَة المجتمع la laïcisation de la société ، يبدو أن القوى السياسية قد تغلبت على الإسلام وشلَّته، كما أن الكنيسة الكاثوليكية مُهدَّدة بالتدمير، نظراً لعدم قدرتها على التحرر من معاداتها المُمَأْسَسَة للنسوية، ورفضها الأخذ في الحُسبان كلا من الجسد والجنسانية في المجال الروحي المتعلق بها، ألا وهو الميراث الثقيل للخطيئة الأصلية. إلا أن هذه الانتقادات تُهاجم على نحو مغلوط ثقافات الحداثة، كما رأينا.

لكن ينبغي علينا أنْ لا نفسح المجال لتذكر المشاكل البائدة كي تُلهينا عن المشاكل العائشة. يلزمنا التعريف الذي أعطيناه للحداثة العُدول عن أي مبدأ اجتماعي، أو سياسي لتوحيد الفكر والفعل بل أسعى إلى أنْ يكون هذا العُدول، من حيث هو رفض في الواقع، هو التعريف الحديث للعلمانية.

يجب على دور الدولة أنْ يكون ضيقاً كما يحلو لليبراليين، على أنْ لا يُقَدم أي فاعل خدمته لسلطة مطلقة، أو يجعل من ذلك هدفاً له.

إن كل دعوة إلى ما وراء الاجتماعي au- delà du social، تُسند إليه مسؤولية مَدّ المجتمعات السجينة لنفعيتها بـ «المعنى» هي دعوة باطلة وخطيرة، ما يفرض علينا أنْ ننظر إلى جميع أشكال المعنى المبني من طرف المجتمعات الحديثة كمبادئ كونية، وفقاً لروح الأنوار. من خلال رفض أي مبدأ اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي )العولمة( لتكامل الحداثة ومجاوزتها ما دام لم يتمكن من تحديدها بالتغيير، وبمعنى أدق تحديدها بالتعالق المتبادل بين العناصر الثلاثة التي أَعَدْتُ صياغتها..

يكمن التعبير الأهم لرفض أي مبدأ وحدة ثقافي وروحي في المجتمع الحديث، في اختزال الدولة إلى دور تدبيري لعلاقات دائمة التعقيد بين الممارسة الاقتصادية والتأويل الثقافي، بين التاريخانية والصراع الاجتماعي، علاوة على التأويلات الثقافية والصراعات الاجتماعية. لقد تَطرقَت الفلسفات السياسية، خاصة النسوية منها، التي تلح على الفصل بين السلطة والسياسة، تطرقت إلى نقطة بالغة الأهمية.

إذا كانت السياسة هي تدبير للعلاقات بين الفاعلين وأهدافهم؛ فإن السلطة تعرف على العكس من ذلك بالسيادة واحتكار العنف المشروع، على حد تعبير ماكس فيبر الذي صار كلاسيكياً. وبالتالي، يجب على دور الدولة أنْ يكون ضيقاً كما يحلو لليبراليين، على أنْ لا يُقَدم أي فاعل خدمته لسلطة مطلقة، أو يجعل من ذلك هدفاً له.

انطلاقاً من ملاحظة المجتمعات فائقة الحداثة سارية التشكل، يتبين لنا خلافاً لما سلف ذكره، أن تشكلها يفترض أنْ يحظى الفاعلون وأهدافهم المركزية بنفوذ سياسي، وهو ما ينبغي أنْ ينالوه بالديمقراطية البرلمانية التمثيلية، التي نستشف بقلق بالغ ترديها، إنْ لم نقل إهدار تمثيليتها أو بالأحرى اندثارها.

لنلخص والحالة هذه مجموع التحليلات المباشرة لفكرة المجتمع الحديث، كما عرفتها في البداية. لا ترتكن المجتمعات الحديثة إلى أي قدسية خارج الفعل البشري، وإنما تقوم على طبيعة تحولها، سواء من خلال شغلها، أو تنظيمها، أو من خلال استثماراتها، التي تُحرض على الفصل المتصاعد بين الفئات المُتغلِّبة والمُتغلَّبة، إذ لا يمكن إجبار إحداهما على الدفاع عن مصالحها وتأويلاتها اعتماداً على مصدر خارجي للشرعية.

تكتسب مجتمعات من هذا القبيل دائماً القدرة على تبصر ذاتها بذاتها، فضلاً عن الوعي بفاعليتها، علاوة على رؤيتها لتشرب ساكنتها بالتدرج، أخلاقاً نفعية تستند إلى تمثل مُعَلْمَن للحياة الاجتماعية. غير أن المجتمع الحديث، الذي يختزل نفسه إلى تلكما النفعية والعَلْمَنَة، لن يخسر آلهته وأبطاله وتقاليده حسب، أيْ ما قد يُنظر إليه باعتباره تحرراً، وإنما سيخسر حداثيته في حد ذاتها.

بمعنى أنه سيخسر وعيه بذاته بوصفها خالقة ومحولة لذاتها، أيْ بوصفها حاملة لحقوق إنسانية أساسية، والتي يعي تملكها أولئك الذي تعلموا الاعتبار في أنفسهم باعتبارهم خالقين لذواتهم ومحولين لها.

 

  • عالِم اجتماع فرنسي

Touraine, Alain. Défense de la modernité. Paris: Seuil, octobre 2018. p.p 206- 209.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي