ذوبان التربة الصقيعية للمنطقة القطبية الشمالية يطلق نفايات مشعة وفيروسات نائمة

2021-10-13

ذوبان التربة الصقيعية (ارشيفية)

نهال وفيق: تغطي الأراضي دائمة التجمد (التربة الصقيعية) ما يقدر بنحو 23 مليون كيلومتر مربع من نصف الكرة الأرضية الشمالي، بحسب المركز الوطني لبيانات الجليد والثلوج (NSIDC). لكن ارتفاع درجات حرارة العالمية أدى إلى انحسار التربة الصقيعية بمعدلات غير مسبوقة.

وقد حذر علماء من أن ذوبان التربة الصقيعية قد يوقظ فيروسات وبكتيريا كانت نائمة تحت طبقة الجليد في القطب الشمالي منذ مئات أو ربما آلاف السنين، ويطلق مواد كيميائية ونفايات مشعة تهدد صحة البشر والحياة البرية.

التربة الصقيعية ومخاطر انحسارها

تعرف التربة الصقيعية بأنها أي نوع من الأراضي، سواء كان تربة أو رواسب أو صخورا، يظل متجمدا لعامين متتاليين على الأقل، وقد يتراوح سمكها بين متر واحد إلى أكثر من ألف متر.

وأشارت تقارير إلى أن درجات الحرارة بالمنطقة القطبية الشمالية ترتفع بوتيرة أسرع 2-3 مرات مقارنة بالمعدل العالمي. وكلما ارتفعت درجات حرارة الهواء، ارتفعت أيضا درجات الحرارة تحت الأرض، ويترتب على ذلك ذوبان الجليد.

وقد حذرت دراسة حديثة -نشرت بدورية "نيتشر كلايمات تشينغ" (Nature climate change) بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول الماضي- من مخاطر ذوبان التربة الصقيعية على النظم البيئية وصحة البشر.

وأشار الباحثون إلى أن معظم التربة الصقيعية في القطب الشمالي ظلت مجمدة منذ حقبة البليستوسين الممتدة من 2.6 مليون عام حتى 11.700 عام مضى.

وقد يبدأ الذوبان تدريجيا من الطبقات العلوية الأحدث ليطلق مكوناتها المخزنة بداخلها ثم يمتد إلى الطبقات السفلية الأقدم، أو قد يكون مفاجئا. وفي هذه الحالة سيطلق سريعا الكائنات المجهرية والمركبات الكيميائية المحتجزة في الطبقات السفلية منذ آلاف السنين.

حفظ الجليد جثث البشر وجيف الحيوانات من التحلل واحتجز الغازات (ارشيفية)

مخازن غازات الاحتباس الحراري

عندما تموت النباتات والحيوانات تطلق الميكروبات التي تحلل أجسامها ثاني أكسيد الكربون والميثان في الهواء، ولكن هذه العملية تتوقف عندما تُدفن في الجليد الذي يعمل على حفظ أجسام الكائنات واحتجاز الغازات التي كانت ستُطلق في حالة تحللها.

وعندما يذوب الجليد تواصل الميكروبات عمليات تحليل المواد العضوية وإطلاق غازات الاحتباس الحراري من جديد. وبالنظر إلى الأعداد المهولة من جثث البشر وجيف الحيوانات، مثل الماموث التي دُفنت في التربة الصقيعية على مدى آلاف الأعوام، فإن ذوبان التربة الصقيعية سيطلق ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون والميثان سنويا.

إيقاظ الفيروسات والجراثيم النائمة

وبخلاف غازات الاحتباس الحراري، تؤوي التربة الصقيعية طائفة من الفيروسات والكائنات المجهرية التي لديها القدرة على تحمل البيئات المتطرفة لفترات طويلة من الوقت. وقد طورت هذه الكائنات المجهرية أساليب متنوعة لتساعدها على العيش وسط الجليد لآلاف السنين بأقل كميات ممكنة من المغذيات والماء، مثل الدخول في حالة السبات أو زيادة سيولة الغشاء أو إصلاح الحمض النووي.

وربما يكشف تفشي داء الجمرة الخبيئة في سيبيريا، عام 2016، عن مدى خطورة هذه الجراثيم المجمدة. فإن أبواغ العصوية الجمرية المسببة لداء الجمرة الخبيثة ساعدتها على تحمل البقاء في الجليد لعقود أو قرون.

وعزا العلماء تفشي المرض إلى وجود جيف حيوانات كانت مصابة بالمرض منذ عقود في التربة الصقيعية، وقد أدى ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد إلى انتشار البكتيريا مجددا في القطب الشمالي.

وبالمثل، ظهر فيروس جديد في ألاسكا عام 2015، ينتمي لعائلة فيروسات "أورثوبوكس" (Orthopox) المسببة للجدري. وأطلق عليه جدري "ألاسكا" (Alaskapox). ولم يتعرف العلماء بعد على مصادره أو مخاطر الإصابة به.

وقد عثر العلماء عام 2015 على 4 أنواع من الفيروسات العملاقة، من عينة من تربة صقيعية عمرها 30 ألف سنة في سيبيريا. وعلى الرغم من أن هذه الفيروسات تصيب أحد أنواع الأميبا، فإن الباحثين ذكروا أن حفاظ هذه الفيروسات الضخمة على قدرتها على نقل العدوى بطبقات التربة الصقيعية قد يدق ناقوس الخطر حيال ارتفاع درجات الحرارة في العالم.

ورغم احتمالات تسبب هذه الفيروسات المحفوظة بالتربة الصقيعية في جائحة غير مؤكدة حتى الآن، فإن بقاء الفيروسات في هذه البيئات المتجمدة على قيد الحياة قد يتوقف على قدرتها على نقل العدوى إلى مضيف تكيف مع البيئات الباردة.

بيد أنه من الممكن استعادة هذه الفيروسات من جثث الضحايا وإعادة تخليقها في المختبر. فقد تمكن علماء من استعادة الحمض النووي الريبي لفيروس الإنفلونزا الإسبانية من رئة امرأة دفنت في مقبرة جماعية على عمق 6 أقدام في الجليد منذ أكثر من 75 عاما. واستطاع العلماء تركيب التسلسل الجينومي للفيروس.

ولفت الباحثون إلى أن الكربون -الذي سيُطلق في الغلاف الجوي إثر ذوبان التربة الصقيعية- قد يعزز عملية تكاثر الكائنات المجهرية التي كانت متوقفة بسبب نقص المغذيات وشدة البرودة.

نفايات نووية

تحتجز التربة الصقيعية أيضا مواد مشعة تعود إلى بداية التجارب النووية في الخمسينيات من القرن الماضي.

وخلال الفترة من 1955 إلى 1990، أجرى الاتحاد السوفياتي 130 تجربة نووية بالقرب من أرخبيل نوفايا زيملايا في المحيط المتجمد الشمالي، أُطلقت خلالها نحو 265 ميغاطن من الطاقة النووية.

وأغرقت السلطات الروسية أكثر من مئة غواصة نووية خرجت من الخدمة في بحري كارا وبارنتس. ولا تزال الملوثات الناتجة عن هذه النويدات المشعة باقية في طبقات التربة بالمنطقة. وقد عُثر على نسب مرتفعة من البلوتونيوم المشع والسيزيوم في قاع البحر والألواح الجليدية والنباتات والتربة أسفل الأنهار الجليدية.

وبالمثل، أنتج مركز أبحاث "كامب سنشري" (Camp Century) الأميركي للأبحاث -الذي يدار بالطاقة النووية في غرينلاند- كميات ضخمة من المخلفات النووية ووقود الديزل، وعندما خرج المركز من الخدمة عام 1967، بقيت هذه المخلفات تحت الجليد المتراكم. وتشير التقديرات إلى أن مستويات المواد المشعة في القطب الشمالي ستظل مرتفعة بمستويات خطيرة حتى عام 2500.

وذكر الباحثون أن تربة القطب الشمالي تحوي أيضا تركيزات معادن طبيعية خلفتها عقود من التعدين، منها الزرنيخ والنيكل والزئبق.

   تحتجز تربة القطب الشمالي مواد مشعة تعود إلى نفايات النووية متعددة المصادر (ارشيفية)

كما تحتوي التربة الصقيعية بالقطب الشمالي على نسب مرتفعة من المواد الكيميائية الخطيرة التي حُظرت مطلع الألفية الثالثة، مثل المبيد الحشري (ثنائي كلور ثنائي الفينيل ثلاثي كلور الإيثان) الذي يعرف اختصارا بـ "دي دي تي" (DDT) وثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCP).

وقد انتقلت هذه المواد الكيميائية وغيرها من الملوثات العضوية الثابتة عبر الهواء إلى القطب الشمالي، وتركزت مع مرور الوقت في التربة الصقيعية. وإذا أُطلقت هذه المواد في الهواء مرة أخرى، قد تؤثر سلبا على النظام البيئي وصحة البشر والحيوانات.

ولفت الباحثون إلى أن التربة الصقيعية تختزن ما يتراوح بين 600 و1656 غيغاغرام من الزئبق. وقد يؤدي ذوبان الجليد في القطب الشمالي إلى انتشار الزئبق في النظم البيئية عبر الماء والهواء، وربما يصل إلى إمدادات الطعام. وقد ثبت أن التعرض للمعادن الثقيلة، كالرصاص والزئبق والكادميوم، يسبب تلف الأعضاء والسرطان وقد يفضي إلى الموت.

وخلصت الدراسة إلى أن ذوبان الجليد الناجم عن تغير المناخ سيظل يؤثر على المحيط المتجمد الشمالي والغلاف الجوي والنظم الأرضية. وقد يبدو جليا أن السبيل الرئيسي للحد من أخطار التعرض للملوثات الكيميائية، ومسببات الأمراض المدفونة في جليد القطب الشمالي، هو اتخاذ خطوات فورية لإبطاء وتيرة ذوبان التربة الصقيعية.

المصدر: الجزيرة

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي