شوقي بزيع: بعض الشعراء لا يعرفون بحور قصائدهم.. والعمل الصحفي أغنى النقد والشعر

2021-10-12

الشاعر اللبناني شوقي بزيع

أشرف الحساني

ينتمي الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع إلى فئة قليلة من الشعراء الذين وسعوا أفق النص الشعري العربي وجعلوه مختبرا للأصوات والألوان والمعرفة والصمت كامتداد عميق لطبيعة الحياة اليومية في تعددها وزخمها وفوضاها.

فقارئ تجربته الشعرية يكتشف حجم الثراء الشعري الذي تنضح به أعماله، في وقت كانت فيه السياسة تخط مسار الشعر وتصنع له خطابه.

ورغم أن تأثير السياسة بدا واضح المعالم والرؤى على بعض دواوينه الشعرية كما يعترف الشاعر نفسه، فإن حدس شوقي بزيع الشعري سرعان ما قاده إلى الإقامة في تخوم المعرفة والعودة إلى مسارب الطفولة وبراءتها، والتركيز أكثر على تفاصيل دقيقة منفلتة من الواقع العيني المباشر، وتحويلها إلى متنفس شعري.

لكن في كتابه الجديد "مسارات الحداثة.. قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين" (2021) يطالعنا بزيع بصورة الناقد المفكك لتضاريس الشعر العربي الحديث، متتبعا ضوء الحداثة الشعرية وتمثلاتها داخل تجارب شعرية أسست للمفهوم وبلورته شعرا.

والحقيقة أن لجوء بزيع إلى تأليف دراسة نقدية لم تملها فقط نزعة وجدانية بوصفه من الكتاب اللبنانيين الذين أغنوا الصحافة العربية بمقالاتهم وسجالاتهم النقدية، ولكن دوافعه كانت بشكل أكبر؛ معرفية وتاريخية؛ مما يؤكد المكانة التي يحتلها بزيع داخل الثقافة العربية، لا بوصفه شاعرا أو مدونا، بل ككاتب ومثقف يجمل مشروعا معرفيا يوازي بين رقّة الإبداع ورحابة التكوين المعرفي وحدة الموقف وتواضع الذات وأخلاقها في الاعتراف بتراث الآخرين.

كتاب "مسارات الحداثة.. قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين" لشوقي بزيع صدر عن دار الرافدين في بيروت (الجزيرة)

وعن كتابه النقدي الجديد وعلاقة الشاعر بالناقد داخل العالم العربي، مرورا بتجربته الشعرية ومصادرها ومنابعها الطفولية؛ كان للجزيرة نت هذا اللقاء مع شوقي بزيع.

حدثنا عن معالم العلاقة بين الشاعر والناقد داخل البلاد العربية؟ وما الدور الذي لعبه الشعراء في التعريف بالمنجز الشعري، مقارنة بالناقد الأدبي أو الأكاديمي؟

لا أريد إطلاقا أن أضع الشاعر مقابل الناقد، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل شاعر حقيقي هو ناقد حقيقي بالضرورة، لأنه على الأقل يعرف آليات الكتابة ويختبر النص بالحدس من جهة، وبالتجربة من جهة أخرى؛ ينطلق من الذائقة الكافية لكي تمكنه من معرفة الإبداع الحقيقي من الزيف والمكرر.

لكن ما يصل إليه النقاد بالدراسة الأكاديمية وبالتعلم يصل إليه الشاعر تلقائيا بالموهبة والخبرة، وهذا شيء أيضا يشبه علاقة الشاعر بالإيقاع، إذ إن هناك العديد من النقاد يجرون اختبارات على إيقاع الشعر العربي وبحوره وعلى كيفية تطوير البحور ويشتغلون على قواعد النظم والحركات، في وقت أن الشاعر لا يحتاج كل ذلك لأنه يكتب بالسليقة.

وأنا أعرف شعراء كبارا أخبروني أنهم لا يعرفون أي بحر من البحور، ومع ذلك لا يخطئون في الوزن. أما الإضافة التي قدمها الشعراء إلى النقد فأعتقد أننا حين نتحدث عن تجاربهم الشعرية وسيرهم الذاتية، وعن علاقة ذلك بشعرهم، مثل أدونيس كمشروع ثقافي يوازي بين كتاباته الشعرية وهو منظر لشعر بحدود كبيرة. واللقاءات التي أجراها محمود درويش أو نزار قباني أيضا مع العديد من الإعلاميين وتحدثوا فيها عن تجاربهم، وغير الأشياء التي تؤكد أن الشاعر ناقد حقيقي يمكن أن يضع تجربته في خدمة النقد جنبا إلى جنب مع التجربة الأكاديمية.

هل ثمة خصوصية ما داخل المشهد الأدبي اللبناني بجرائده ومجلاته على مستوى ثنائية الشاعر/الناقد، باعتبار أن بيروت ظلت مختبرا للحداثة الأدبية العربية؟

هذا سؤال يكمل ما ذهبنا إليه، لكنه يتصدى للمشهد اللبناني، إذ إننا نجد أن معظم الشعراء اللبنانيين بدءا من الرواد ووصولا إلى جيلي الستينيات والسبعينيات كانوا نقادا وأثروا في النقد العربي بمقالاتهم وآرائهم. يكفي هنا أن نعود مثلا إلى مجلة "شعر"، حيث قرأنا الكثير من المقاربات النقدية لأنسي الحاج ويوسف الخال وخليل حاوي، وفي الجيل اللاحق يمكن أن نستشهد بتجارب نقدية لشعراء إعلاميين كعباس بيضون وبول شاوول وعبده وازن وعقل العويط.

إننا نشعر بأن هؤلاء يمتلكون إضافة إلى الموهبة والإخبار الداخلي قدرا عاليا من الثقافة التي كان عليهم أن يحصنوها بحكم مهنتهم. وأنا من الذين يعتبرون أن العمل الصحفي أغنى النقد والشعر على حد سواء، لأنه يشكل صقلا للغة وتمرسا وتليينا بها، لأن الصحافة أسهمت بنقلها من إطارها التقليدي المعجمي لكي تضعها في فضاء مفتوح.

هل لهذا السبب صدر لك قبل أسابيع "مسارات الحداثة.. قراءة في تجارب الشعراء المؤسسين" (2021) كي تعيد الاعتبار "للشاعر الناقد"، ودوره في ترميم وتوثيق الحركة الشعرية العربية أمام التراجع المخيف للنقد الشعري داخل الجامعة؟

هذا يعيدنا لعلاقة الشعراء بالصحافة، لكن مشروع الكتاب بدأ أصلا على شكل دراسات نقدية أريد لها قراءة للحداثة الشعرية، خاصة على مستوى الريادة بعد أكثر من 70 سنة من قيام الحداثة كحركة ومشروع تمت بلورته في العراق واستكمل في بلاد الشام وغيرها.

وجدت أنه من المناسب أن أضع له دراسة تمهيدية تكون تمهيدا لما طرحته لاحقا من قراء حول الشعراء المتناولين. وهنا لا بد من القول إن هذا الكتاب أردت منه أن أصل إلى استنتاج أنه ليست هناك حداثة واحدة بل حداثات متعددة على جميع الأصعدة، كأنه يوجد تطور لا متكافئ أو لا متساوق في الحداثة، بدليل أن هناك العديد من البلدان لا تنتمي إلى العالم الأول والثاني وقد تكون متخلفة على المستويات التقنية والسياسية، ولكنها قدمت إسهاما عاليا على مستوى الحداثة الإبداعية رواية وشعرا وفنونا تشكيلية.

وهذا متصل بالعلاقة غير الطردية بين التقدم العلمي التكنولوجي وبين الحداثة، لأن هذه الأخيرة في عمقها لا زمنية، وقد تعني عودة إلى براءة الأشياء، وإلى الفطرة الأولى والبحث عن لغة برية خام، وهذا قد يحصل في الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل.

في الكتاب تصديت نقدا وتفكيكا لسيرة 25 شاعرا من العالم العربي. جماليا، ما حدود التلاقي والتقاطع بين هؤلاء وباقي الشعراء العرب؟

بالفعل، هو تأكيد على فكرة الخيارات والمقاربات المختلفة للحداثة، لأنها ليست مكانا نصل إليه أو هدفا مرئيا نكتفي به، ولكنها إرهاص دائم وأفق متحرك باستمرار، إنها شيء غير ناجز كما هي الحال للهوية.

لذلك حاولت أن أطبق هذا المفهوم على هؤلاء الشعراء الذين تناولتهم بالقراءة. سعيد عقل ونزار قباني أنا أعتبرهما حديثين بامتياز، حتى لو أنكر سعيد عقل الانتماء إلى الحداثة وكان ضد الشعر الحديث.

في حين أن نزار قباني من جهة ثانية كان أقرب إلى تجربة جرير؛ فقباني هو الطرف الآخر النقيض، لأن لغة سعيد عقل لغة معجمية، إذ كان يميز بين الشعرية وغيرها ومفرداته قليلة جدا، ولكنه من خلالها استطاع أن يجترح أشكالا جمالية شديدة الثراء والتنوع. في حين حرر نزار قباني اللغة من القاموس والمعجم وأطلقها للجميع حتى أصبحت خبزا وهواء وماء وضوءا؛ وهذا أثر على كثير من الشعراء الذين جاؤوا من بعده وتأثروا به.

كل شاعر له لمسته الخاصة، لذلك من الصعب أن أتحدث عن الفوارق بين حداثة أنسي الحاج وأدونيس والبياتي والماغوط ودرويش، إذ إن لكل شاعر مكانه وحساسيته تجاه اللغة والعالم.

ما نصيب المغرب الشعري من دراستك النقدية، لا سيما الجيل الثاني (السبعينيات) من المشهد الشعري المغربي المعاصر، والذي عمل على بلورة مفهوم الحداثة ومساراتها المتشعبة داخل حقل الأدب؟

كثيرون طرحوا عليّ هذا السؤال عن غياب المغرب العربي عن الكتاب، وهذا أمر يعود إلى تناولي للشعراء الرواد، وأخدت 4 أو 5 تجارب من شعراء الستينيات، وأعد بجزء ثان في هذا المجال. خاصة أنني أشرت إلى أن التأسيس ليس مرتبطا بفترة زمنية معينة، ولكننا دائما في نقد وإعادة تأسيس، وهذا هو معنى الحداثة الأساسي.

ففي جيل الرواد ليس هناك إسهام مغربي بالواقع، وأنا لا أتناول الفرانكفونيين كي تكون هناك بعض النماذج المغربية، ولكن على مستوى الشعر المكتوب بالعربية لا نرى وجودا للمغرب في الجيل الريادي.

أبو القاسم الشابي مثل جبران، بشروا بحساسية جديدة على مستوى اللغة الرومانسية، إذ اعتبرت الرومانسية خرقا حقيقيا وطريقة جديدة للبحث عن المغاير والمختلف، وهي شكل من أشكال الرفض في وقتها.

وبالفعل كان أبو القاسم الشابي في قلب هذه الدائرة، لكن معظم الشعر المغاربي يأتي في فترة السبعينيات بشكل أساسي، حيث أضحى الشعر المغربي في قلب المشهد الشعري العربي الحديث.

ديوان الشاعر اللبناني شوقي بزيع "الحياة كما لم تحدث" صدر عن دار الآداب (الجزيرة)

إلى جانب كتاباتك النقدية تُعرف بكونك من أهم الشعراء لبنان وصاحب مشروع شعري جمالي لدرجة أن القارئ لأعمالك الشعرية لا يرتطم بأي بعد أيديولوجي في صياغة وتوليف النص الشعري. كيف تم ذلك وقد عشت في زمن الحرب الأهلية بكل أحلامها وانكساراتها؟

الحقيقة أنني لم أتخفف من الأيديولوجيا إلا في فترة لاحقة، وتحديدا مع "وردة الندم" و"مرثية الغبار" في بداية التسعينيات، لكوني أنتمي إلى الجنوب اللبناني، وكوني ولدت في مكان ساخن جدا بالقرب من الحدود الشمالية لفلسطين وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والاجتياحات المستمرة.

لا شك أن ذلك ترك أثرا واضحا على العديد من شعري وباقي الشعراء من جيلي، لكن الذي حماني من الوقوع في فخ الوقوع في الأيديولوجيا هو تتلمذي في مرحلة الجامعة اللبنانية على شعراء ونقاد كبار، من بينهم أدونيس وخليل حاوي ويمنى العيد وأنطوان غطاس كرم وميشال عاصي؛ الذين كانوا ينأون بي عن الخيارات الأيديولوجية في الشعر.

وعشنا صراعا حادا في تلك الفترة بين ما تدعو إليه الأحزاب اليسارية الجديدة من التزام مباشر بالقضايا السياسية والاجتماعية، وبين محاولة أخذ القصيدة إلى مكان أكثر استقلالا لأبعاد جمالية تنتصر للإنسان واللغة والشعر بشكل أساسي.

يجد قارئ تجربتك الشعرية نزوعا كبيرا إلى التفاصيل المنسية في ذواتنا وجسد الاجتماع الإنساني ككل. كيف وعيت جماليا في ذاتك هذا الشرط المعرفي في بناء نص شعري متفرد ومنفلت من قبض الاجترار والتدوير؟

قبل "مرثية الغبار" ظللت 5 سنوات لم أكتب أي شيء خلال منتصف الثمانينيات، وهذا كان سببه الأساسي الصراع الذي عشته بين ضغط الالتزام الذي كان يفرض من القوى السياسية التي كنت أنتمي إليها في الحركة الوطنية اللبنانية وبين الكتاب والأدباء الذين كان لهم تأثير كبير علي والدفع بي صوب خيارات حداثية جذرية.

وبعدها جاءت مجموعاتي الشعرية اللاحقة الكثيرة، بدأت تجربتي تغتني وتتنوع بين مجموعة وأخرى وهذا تطلب المكابدة والجهد والاشتغال على النفس ومحاولة تجديد اللغة على قدر استطاعتي في هذا الخصوص.

ما التحولات الجمالية والفكرية التي رافقت تجربتك الشعرية في علاقتها بتجارب الآخرين، لا سيما من جيلك؟

على الإنسان أن يرى نفسه في مرايا الآخرين، ومع ذلك أقول إن أصعب شيء بالنسبة للشاعر أن يستطيع امتلاك تلك الخلطة السحرية التي يوثق من خلالها عناصر الكتابة المختلفة، أي بين أن يحضر في تاريخ الشعر كطاقة لغوية تعبيرية وجمالية من جهة، وأن يحضر أيضا كمعنى وحفر في تربة الداخل الإنساني بسلاسة ومن دون تعسف.

أصعب شيء بالنسبة للشاعر ليس أن يعرف بقدر ما هو أن يمحو تلك المعرفة كي تذوب داخل النص الشعري. وإلا فهو ناقد/مفكر/منظر أي شيء آخر، بمعنى أن تحضر المعرفة شعريا وإلا يقع الشعر في حالة تصحر وجفاف ذهني، وفي استخدام متعسف للجمل والمفردات.

وحاولت ذلك بامتياز وربما ساعدني المكان الريفي الذي أنتمي إليه بالجنوب، تلك الطفولة الغنية التي تمدني دائما بمخزون لا ينضب من الأخيلة والاستعارات والمجازات.

لهذا، فأنا مجبول تماما بتلك التربة والهواء والمياه، وتلك المساحات اللونية الوارفة التي أغنت مخيلتي الشعرية إلى حدود كبيرة. وربما كان ديواني "صراخ الأشجار" هو التعبير الأنصع عن هذا الاحتفاء بالطبيعة، ليس من خلال حالة وصفية أو استعمال كنائي أو استعاري، ولكن من خلال إعادة ابتكار الطبيعة واختراعها من جديد.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي