الدكتورة آمنة النصيري: معاناة المبدع لا تنحصر في عد النقود وإنما في البحث عن الذات

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2009-12-21

صنعاء(الجمهورية اليمنية) - حوار: محمد الطويل وخالد اليريمي

عند ما كنت أطالع "مقامات اللون" في صحيفة "الثقافية" وأنا طالب في الثانوية العامة، كانت عيناي تختلس النظر من بين السطور لتتجه نحو الصورة الشخصية لكاتبة المقال، فأتساءل في نفسي هل يأتي يوم استطيع أن أقابل هذه الشخصية التي كانت تشدني باختلافها عن الآخرين الذين يكتبون في الفن التشكيلي ويرسمون أيضا. لا أعتقد أن تسريحة شعرها التراثية وهندامها التشكيلي المختلف هو السبب، ولكن الدافع هو سمو الفنان داخلها والذي استلهمته -كما تقول في حوارنا التالي- من العلامة الكبير ابي حامد الغزالي، الذي أرشد الخطاط الذي سأله: كيف يمكن أن يصنع لوحة جميلة؟ قائلا له: "أولا يجب أن تغتسل، وأن تكون مطهراً تماماً، ثم تتصالح مع من اختصمت معهم، وتسامح من حقدت عليهم، وتنقي نفسك وأفكارك من كل الشهوات، وتصلي، ثم تجلس لترسم". فالي الحوار:

*ما هي أول لوحة رسمتيها؟
- لا أستطيع تذكّر أول لوحة رسمتها، ولكن من أوائل الأعمال التي اشتغلتها بشكل احترافي الصور الشخصية، فرسمت مرسيل خليفة، وعند ما التقيت به في قطر حكيت له أنه من أوائل اللوحات التي رسمتها، فكان حريصا على أن يرى صورته، فأخبرته باني لا أعرف في أي أرض هي، فبدايتي كانت مع القصة القصيرة، وكنت مغرمة جداً بالأدب، والسبب في ذلك يعود إلى أمّي التي اعتزلت الحياة، واعتزلت الناس، واعتبرت مهمتها في الحياة تشكيلنا، فكانت تقرأ كثيرا في الأدب، وتحكي لنا الروايات المشهورة على هيئة قصص و"سُمّايات"، أمثال: "البؤساء، بائعة الخبز، وكوخ العم توم، كفاح الزنوج في سبيل الحرية"، وكان عمري حينها ثماني سنوات. وفي الوقت نفسه كانت أمّي ترسم ومولعة جداً بالرسم، فكنت أجلس وأرسم معها، وهذه مسألة نادرة جداً، أن تجد امرأة ريفية من "قيفة رداع" ترسم. هذه الأم كان عندها فضول شديد للعلم، فكان التعليم هو الخيار الوحيد الذي وفّرته لنا -أنا وإخوتي.

*كنت ترسمي مع أمك وعمرك ثماني سنوات، هل خالجك شعور بأنك ستكونين فنانة تشكيلية؟
-أبدا، كانت أمنيتي أن أكون صحفية، والشيء الغريب أني كنت أرسم وعمري أربع سنوات، وأشخبط في كل مكان، وفي كل شيء أجده، لدرجة أني حوّلت جدار بيتنا الأبيض في رداع وصنعاء إلى لوحات مليئة بالشخابيط، فكانت أمي تتعذب وهي تغسل الجدران، وتضربني. أضف إلى أن حواشي وصفحات دفاتري وكُتبي مرسومة.
فكنت أنا أكثر إخوتي استهلاكا للدفاتر والكُتب، وعند ما أشاهدها اليوم أضحك كثيرا، فأثناء هذا كله كنت أرسم بدون توقف، لكن عندي تصور أني سوف أدرس صحافة، فلا أستطيع تبرير المسألة.

* متى كان أول معرض تشكيلي لك؟
- عملت أول معرض لي وأنا في ثالث ثانوي، وافتتحه آنذاك الأستاذ حسن اللوزي في المركز الثقافي، وكان عبارة عن صور للشخصيات التي أحببتها، ولها في نفسي مكانة كبيرة كـ"غاندي ولوركا وعبد العزيز المقالح، مرسيل خليفة ومكسيم غورغي"، فكان فني يعبِّر عن اتجاهي الأدبي، وكان الأستاذ حسن اللوزي متحمسا لي كثيرا، ويريد إرسالي في منحة لصقل موهبتي، ولكن نتيجة لظروفي الأسرية درست الفلسفة في جامعة صنعاء، وعند ما سنحت لي الفرصة سافرت إلى روسيا.

*أنا الآن في مرسمك، أشاهد لوحات تعكس تغيّرا في أسلوبك ومعالجاتك التشكيلية، فهناك اتجاه إلى الحروفية ذات المنبع الإسلامي، والدخول في التجريد اللوني والشكلي، هل تقدّمي مساعدة للقارئ كي يفهم ذلك؟
-نحن اليوم في عصر الصورة، لكننا في اليمن لا زلنا متخلفين. فنحن بلد تقليدي في اتجاهاته الثقافية الأخرى، باستثناء الكتابة والشعر، بمعنى لا يوجد مسرح، وإذا وُجد فهو هزيل جدا، ولا توجد سينما، ونحن نحكي اليوم عن سينما عُمانية وسينما إماراتية وسينما سعودية، لكن لا أستطيع أن أحكي على سينما يمنية، فالصورة غير موجودة بكل تفاصيلها وتنظراتها، وهذا هو السبب الذي يجعل الكثير عند ما يأتون إلى المعرض لا يستطيعون استيعاب لوحاته، ولا يستطيعون فهم أهميّة اللوحة التجريدية، وماذا يريد الفنان قوله.

*إذن لمن ترسمين؟
-الفنان يرسم لذاته، ولا يرسم لأحد، وبعدها تأتي مشكلة الفنان والمتلقي، وأنا لا أستطيع التراجع والعودة إلى بداياتي، وأعود لرسم الصور الشخصية والأسواق والحدائق والشوارع؛ لأنها ليست مهمّة الفن التشكيلي. فالفن الواقعي لم تعد مهمّة الفن التشكيلي. فكل ما ينطبق على الأدب والشعر والقصة والرواية ينطبق على الفن. واليوم نحن نعيب على الشاعر والكاتب التصوير الواقعي الفج، فكيف نتسامح مع هذه القضيّة في الفن. فالمسألة واحدة لكن المشكلة -كما ذكرت- هي في ثقافة الصورة المنعدمة في مجتمعاتنا. وأعيب على كثير من الفنانين التشكيليين مسألة الإلحاح على استرضاء ذائقة الجمهور العام وذائقة المتلقّي العادي وذائقة السائح. فوجد في الفن ما يسمى بالفن السياحي، الذي يحاول أن يجسّد بعض التوليفات وبعض التفاصيل من اليمن، مثل: "القمرية، البيوت، المجالس الشعبية، المرتفعات، مشهد لامرأة ورجل بالزي التقليدي"؛ حتى يشتريها السائح، ويقول إنه كان في اليمن، فهذا لا يصنع فنا، وهي رسوم أكل عيش بالنسبة للفنان، ولا يمكنها أن تصنع حركة فنية، وهذه اللوحات في أوربا اليوم على الأرصفة وفي موسكو "عاصمة الفن الواقعي" تُباع مثل هذه اللوحات في ممرات المترو، ولا تدخل الصالات المهمّة.

*ماذا عن التجريد والحروفية؟
-رسالتي للدكتوراه كانت عن البُعد الفلسفي والعقائدي في فنون التصوير، مقارنة بين المنمنمات الإسلامية والإيقونات المسيحية، وكيف تؤثر العقيدة في ظهور الفن وتطوّره. وأنا أتصور أن الإسلام قام على الروح الإبداعية، فالحضارة الإسلامية في أوجّ ازدهارها أنتجت أجمل الصور والمخطوطات والجداريات المصوّرة، ولكن عند ما بدأت تنهار الدولة الإسلامية وبدأت عصور الانحطاط، ظهرت أفكار التطرّف وبدا أن معظم الفن على أنه محرم ومخالف للشريعة، مع أن الفن يحمل في جواره الحق والخير والجمال، وهي سمات أساسية للبحث الفسلفي، فكيف نتصوّر أن الفنان الذي يتأمل في إبداع الله يمكن أن يخطئ ويتصوّر أشياء يمكن أن تسيء أو تتعارض مع مفاهيم الدين. ولك أن تعرف أن الفن عند كبار المفكرين الإسلاميين شكل من أشكال التسبيح. وكان الفنان يعتبر إفناء حياته في الرسم نعمة من الله؛ لأنه أفنى عُمره وهو يسبّح في هذا الملكوت الجميل. والفن نتاج للعقل أكثر مما هو نتاج للعاطفة، ولهذا السبب اتخذ الفن الإسلامي هذا الشكل التجريدي العالي؛ لأن الفنان أراد أن يبني بناءً تجريديا يستحضر بناء الكون، ولا يتشبه ببنائه بشكل حسّي وتمثيلي وتجسيدي. وليس فقط لمخافة التشبيه أو لكراهة التشبيه، ولكن لأن الرؤية في الفن الإسلامي قامت على التجريد. وأنا أعتقد أن القرآن أول مصدر نستشف منه كثيرا من الدلائل الفنية وحتى السور والأسئلة التي يطرحها القرآن: "أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، أفلا تنظرون"، كل الأسئلة تدل على أنك يجب أن تفكر.

*أعتقد أنك أكثر التشكيليين اليمنيين مشاركة في المعارض الدولية الخارجية، كيف ينظر إلى الفن التشكيلي اليمني؟
-أنا فعلا محظوظة جدا في مسألة إيجاد فرص للمشاركة الخارجية، وبدون دعم من أحد، لكني أجد أن حضور الفن اليمني خارج الحدود محدود جدا وهزيل، مع أن التجربة التشكيلية اليمنية جديرة بالاهتمام، ولا أجدها أقل من مستوى التجارب العربية الجادة، والمبدع اليمني عموما لا يعرف كيف يقدّم نفسه، فهناك موهبة طاغية وثقافة محدودة، ولكي تقدّم نفسك وفنك بشكل مشرِّف يجب أن تمتلك ثقافة عالية، وتكون لديك لغة أخرى وتكون إطاراتك وألوانك جيّدة، وأيضا مسألة الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، فلا يمكن أن يعرض فنان في الخارج معرضا لصور شخصية ولوحات تجريدية، لكن مرسم الفنان اليمني "سلطة عجيبة" يحوي كل شيء؛ لأنه يرسم بضغط وإلحاح من الشارع.

* ماذا تقولين عن الفنان هاشم علي؟
-أعتقد أن الفنان هاشم علي حالة لن تتكرر في تاريخ الفن اليمني، فهو الشخص الذي استطاع أن يكون الفنان والأستاذ والمعلِّم والأب لأجيال كثيرة، ومع هذا مات فقيرا ومعدما، ولا أعيب على الدولة فقط، ولكني أعيب على تجّار تعز كيف يموت فنانهم بين أيديهم ويخرجون في جنازته، ولم يفكر أحد منهم بإرساله إلى الخارج؛ لمعالجته.

*أعداد الفنانين التشكيليين تتزايد؟
-هذه ظاهرة ملفتة، فلا تنتعش الفنون إلا في وضع اقتصادي جيّد، ومع تردي الوضع الاقتصادي في اليمن والظروف الصعبة للفنانين اليمنيين وحياتهم البائسة إلا أن هناك عددا كبيرا من الفنانين الشباب، ويتزايد عدد الملتحقين في كلية الفنون وأقسام التربية الفنية، وعملية الاقتناء لا تقتصر إلاّ على وزارة الثقافة، وبعض الجهات الرسميّة، ولا أعتقد أن الفنانين لديهم سوق رائجة حتى نقول: إن الدفع المادي هو الذي يوجدهم، وأعتقد أن هناك جينات إبداعية في الأجيال الشابة، تحثهم على دراسة الفن والإبداع، وهذه ظاهرة ملفتة جداً، حتى إن النقّاد والفنانين العرب الزائرين لليمن يلاحظون كيف يكون هذا العدد الهائل من الفنانين مع هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، وهذه المسألة ليست مرتبطة بوجود السوق؛ لأن سوق الجنابي أكثر رواجاً من سوق الفن، ومن يشتري جنبية بمليون ريال يستحيل أن يشتري لوحة بخمسين ألفا. ولكنني أعتقد أن هناك جينات إبداع تتكاثر في جيل الشباب، وهذه مسألة مبشِّرة.

* ولكن مع هذه الكِثرة لا يوجد لديكم إلا جيلان فقط؟
- كان عندنا جيلان، ولكن عندنا الآن الجيل الثالث الشاب، والذي سيمثل بعد سنوات، ولا تتخيلوا أن جيل الشباب سيظل يتخبط هكذا، وهذه البدايات بالنسبة لهم، ولكن أعدادهم بالمئات، وأتمنى أن يخرج عشرون فنانا تشكيليا محدد الهوية يمتلك خصوصية لكي نقول: إنه جيل. ولديّ أمل كبير في هذا الجيل، ولكن نحن في مجتمع يعيش أزمات كبيرة، وهذا الجيل لا يمتلك فرصة للخروج ومقارنة تجاربه بالآخر، وهذا الجيل حذر وتقليدي أكثر منّا -نحن الجيل السابق- وهذه المسألة تفاجئني أنهم أكثر تقليدية، فعادة اعتدنا أن يكون الجنون والشطحات والتجريد في جيل الشباب، ولو ذهبت إلى مصر وهي مشرق عربي تقليدي، لوجدت أن هناك جيلا شبابا مجنونا بالكامل، مجنونا بالفن، بالمعنى الايجابي يطرح تجارب صارخة وصادمة ويصارع الأجيال السابقة، بينما في اليمن جيل يرسم الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية والشوارع اليمنية، وهم في العشرينات من أعمارهم، فأين جنون الفنان؟!! والسبب في تقليدهم أنهم يريدون تسويق أعمالهم، وأنا أتفهم وضعهم هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية مسألة الثقافة، فهذا الجيل غير مُلم بأشكال التجريب الأخرى، ولا يريد الاطلاع على التجارب الأخرى وهذه مسألة ستؤثر فيه إن استمر بهذا الشكل.

*طبيعة اليمن هل لها أثر في ذلك؟
- الطبيعة اليمنية، وخاصة العمارة، طاغية جداً، وتمتلك سلطة غير عادية على الفنان، فجمعينا أثرت فيه العمارة والبيئة بشكل أو بآخر، ولم نستطع أن نخرج منها بسهولة، وحتى في أعمالنا التجريدية، ستجد مسحة يمنية داخل أعمالنا، البيئة اليمنية بيئة ثرية وقويّة وذات سلطة عجيبة على الفنان. وأحيانا هذه السلطة تطغى على الفن نفسه، فيغيب الفن من داخل اللوحة، وتصبح اللوحة مجرد نقل للخارج.

وأنا كانت أطروحة الماجستير عندي حول "البُعد الفلسفي في زخرفة واجهات العمارة التقليدية في اليمن"، وتحديداً في صنعاء القديمة، فلاحظت مفارقة أن البيت اليمني من الخارج مرسوم مثل قطعة "التورتة" والحلوى، مرسوم وملون ومزركش بشكل مذهل وداخل البيت هادئ وأبيض، وهي مسألة توازن جمالي. فساكن البيت يشعر بأن البيت مكتظ من الخارج، فيضطر إلى تفريغه من الداخل لكي يكون مريحا، ويعقد نوعا من التوازن والألفة من الداخل والخارج.

* اين مكان اللوحة في المنزل اليمني ؟
- البيت اليمني يحتوي على كل شيء إلا اللوحة، وإذا احتوى على اللوحة فهي صينية جوفاء من المستوى الرابع في الفن. وأحيانا تستغرب أن تدخل بيوتا يمنية حديثة فتجد فيها كل أنواع السجّاد الفخم والمفروشات الغنية، لكن اللوحات غاية في الرداءة، فتستغرب في كيفية الذائقة الجمالية لديهم في اختيار المقتنيات، وانعدام الذائقة الجمالية في اختيار اللوحة. وتدخل البيت الخليجي اليوم وتشعر بأن صاحب المنزل يؤمن بأن اللوحة التجريدية ولوحة الحداثة المسايرة للعصر هي جزء وانعكاس لثقافته الجمالية والفنية، فيدرك بأن هذه اللوحة جزءٌ من ثقافته.

* مدينة صنعاء تحفة فنية، فهل أخذت حقها من الفن التشكيلي؟
- نعم، أخذت حقها، وهي مثل الفتاة المدللة حظيت باهتمام الجميع من الفنانين في الداخل والخارج. وصنعاء مدينة فاتنة لا يمكن إغفالها في الفن، حتى المرحوم هاشم علي رسمها وهو يعيش في تعز، فهي مدينة يصعب المرور بها عابراً، ربما لا تحظى المدن اليمنية بهذا الاهتمام بالنسبة للتصوير الطبيعي والتقليدي، باستثناء المُدرجات الزراعية، وكُلنا صوّرنا المدرجات وبأشكال مختلفة. وأنا أعتقد أن البيئة اليمنية ما زالت زاخرة وثرية بالكثير من المفردات البصرية التي يمكن توظيفها داخل اللوحة بأشكال خلاقة.


* ماذا عن طقوس بناء اللوحة عند آمنة النصيري؟
- أتبنّى فكرة تحريض الإلهام والدافع للرسم، وأنا اعتقد أن الفنان يجب أن يسعى للفكرة لا أن ينتظرها، فعندما اشعر أني أعيش حالة جمود أقرأ كثيراً وأسمع موسيقى كثيرا وأشاهد كثيرا من اللوحات، وأفتح الانترنت واطلع على تجارب الآخرين. فبمجرد أنك تتشبع بهذه الأشياء تجد أن لديك محصّلة هائلة ودفعة غير عادية بأن تمارس عملك، هذه طقوس العمل لديّ. أيضا مشاعري أراجعها، فالفنان الصادق كل يوم يراجع نفسه على المستوى الوجداني والمستوى المعرفي والمستوى الإنساني، ولا يصح أن أرسم عن الإنسانية وأنا إنسانة ملوثة، أو أنادي بقضايا شديدة السمو، وأنا متوغل في قاع المجتمع، فلا يجب أن نعيش هذه "الشيزوفرينيا"، فيجب على الفنان أن ينقي نفسه حتى يستطيع أن يستعيد أشياء جميلة في داخله.

* هذا تصوّف؟
- الفن الصادق حالة من حالات التصوّف، ولا أتحدث عن الفن الموجّه للسوق واللوحة التي يجلس الفنان يرسمها، وهو يفكر بالمقتني الأجنبي، أنا أتحدث عن اللوحة التي أرسمها وأضرب عرض الحائط بكل الأفكار المادية ومقولات المجتمع فقط لأرضي ذاتي الفنية، وهي حالة من حالات الاندماج الصوفي الخالص، وأتذكر الغزالي عند ما جاء خطاط يسأله: أرشدني يا سيدي كيف يمكن أن أصنع لوحة جميلة؟ فقل له الغزالي أولا يجب أن تغتسل، وأن تكون مطهراً تماماً، ثم تتصالح مع من اختصمت معهم، وتسامح من حقدت عليهم، وتنقّي نفسك، وأفكارك من كل الشهوات، وتصلي ثم تجلس لترسم، أليس هذا حالة من حالات التصوّف، بمعنى أن يكون الفنان نقيا من الداخل والخارج.

* لكن الوصول إلى هذا التصوّف لم نراه بعد، فما نشاهده مبدعين نرجسيين وفصاميين؟
- إذا قرأنا سيكولوجية المبدع سنجد تركيبية مرضية إلى حد كبير، فالنرجسية لدى أي فنان تكون عالية، حتى من يظهر أنه ليس نرجسيا فنرجسيته من الداخل. وأذكر هنا أن ابني وهو الآن يدرس في ماليزيا، عند ما كان يجلس معي في أوساط الفنانين يحكي لي مدى ضيقه من كثر ما يتحدث الفنانون عن أنفسهم باستعلاء، فيقول لي: إلى أي درجة الفنان يحب نفسه؟ إلى هذا الجنون. فقلت: يا بُني هذه هي حالة نرجسية ضرورية للفن، فقال لي: ولكن أنت لست نرجسية. فقلت له: أكيد أنا مش فنانة، ولكن في الحقيقة أنا أحب فني جداً، ولازم أكون نرجسية في نظرتي المستعلية مع الفن. فالفنان يجب أن ينظر إلى قيمته وإلا تدمّر بسهولة، لأنك تعيش في أوساط تحتقر الفنان، وإذا لم تكن عند الفنان هذه الحالة النرجسية سيكون هشا وسهل الكسر، ويدوس عليه المجتمع، ويقنعك الآخرون بخطاء أفكارك، وإن كانت صحيحة. وهذا السبب جعل بيكاسو يتعامل مع المجتمع بمنتهى التعالي، فبدأ بالتكعيبية في وقت كان الناس انطباعيين، فإذا لم يكن لديك إيمان عالي بأن تصنع شيئا لا يستطيع أحد أن يصنعه من الممكن أن يقنعك الآخر الذي لا يفهم الإبداع بأنك مخطئ، وأنك تدمّر الفن وتدمّر الصورة المألوفة للفن، وإنك تخلق حالة من الفوضى.

وأما إذا أنتجت فنانا أفاقا ومنافقا ومزيفا وسلطويا ويصنع أعمالا جميلة هذه المفارقات تستدعي من جديد أن نعود بتفكيرنا إلى التفكيكية والشكلانية، ونظريات الحداثة في الفن التي طالبت بموت صاحب النص، بمعنى ألاّ نستحضر شخصية الفنان ونقيم العمل بموضعية دون النظر إلى الفنان، ومن خلال تجربتي يجب أن ننسى الإنسان عند ما ننظر إلى عمله الفني سواء أكان شعراً أو قصة أو لوحة، لأن هناك مفارقات كثيرة بين العمل الإبداعي والإنسان. ومن جهة نظري: لا يجب أن تكون، ولكن هذه تركيبات الإنسان، خير وشر، وتناقضات عجيبة.

* متى يصل الفنان إلى الاكتمال؟
- لو اكتمل الفنان لما أنتج أي لوحة، والذي يدفعنا دائما للبحث والإنتاج الفني هو النقص، وليس الكمال؛ لأن الكمال لله وحده، وأنا لا أقول على لوحاتي: إنها أولادي وبناتي مثل كثير من الكُتاب، فلوحاتي ليست أولادي ولا بناتي، وبعد ما انتهي من رسم اللوحة لأربعة أشهر أكرهها وأفقد علاقتي العاطفية معها، وابدأ اشعر أنني كائن جديد، وأن هذه اللوحات لم تعد تشبهني، وهذه حقيقة.

*ماذا عن يومك في المرسم، كيف يكون؟
- يوم مجهد، واعتقد أن الفنان يستنزف داخل المحترف (المرسم)، والأسهل بالنسبة لي أن أخرج في مشاوير، وأفضّل أن أعمل أي شيء على أن ارسم، فبقدر ما أحب الرسم، بقدر ما أشعر أن هذا العمل تعتصر فيه روح الفنان، فالفن هو عصارة الروح، أياً كان هذا الفن، مثل: كتابة القصيدة والرواية شريطة أن تكون صادقة طبعاً. وهناك كثير في عالم الفن والكتابة والقصة والرواية يكتبون لمجرد الوجاهة "البرستيج" لكي يقال فنانة أو قاصة أو رسامة أو شاعرة، فاليوم مجهد داخل المرسم، وأحاول أن أكون مندمجة في العمل. ومن المهم جداً أن أسمع موسيقى في حياتي بشكل عام. فأسمع لكل الناس باستثناء التجارب الحديثة، فاسمع لـ"علي الحجار، محمد الحلو، علي الآنسي، الحارثي، حسين محب، عبد الرحمن الأخفش، والجاز".

*الألم هل يدفعك للرسم؟
- تباهى أحد الشعراء في إحدى الندوات بأنه لم يعرف الاكتئاب في حياته، فرد عليه أحد الحضور إذن أنت لم تكن شاعراً قط. وأعتقد أن جزءا مهما من الإبداع نتاج الألم، والكائن الذي لم يعرف الألم لم يعرف الصدق، والكائن الذي لم تصقله الآلام لم يصقل فنياً، فالفن هو نتاج الدهشة ونتاج الفرح ونتاج المعاناة والألم أكثر، ولا أقصد المعاناة الفقر، معاناة المبدع لا تنحصر في عد النقود، وإنما معاناته في البحث عن ذاته. فعند ما يرسم الفنان اللوحة عشرات المرات يراجع ويتساءل: هل هي لوحة أصيلة؟ وهل فيها مسحة من أي فنان آخر؟ هنا المعاناة، أن تبحث عن ذاتك ونفسك داخل اللوحة، وأن تكون أنت فقط ولا تشبه غيرك، وأن ينجح الفنان في أن يصل بالفكرة إلى الصورة التي أرادها في ذهنه، وأن تكون اللوحة تعبيرا صادقا عن الداخل، والبحث عن شيء لم يستهلك في الفن، وهنا تكمن المعاناة، وقضايا الفن تغيّرت وأصبحت: كيف تصنع رؤية تضيف للحياة، وليس استهلاكا للحياة مثل الفلسفة؟
* ماذا أضافت لك الفلسفة؟
- يقول عنِّي الدكتور حاتم الصكر: إن لديّ تجربة مرمزة إلى حد بعيد، وحضورا للأسطورة والتاريخ واستدعاء مفردات البيئة مكتظة بالكائنات الأسطورية، إلى جانب المُحصلة المعرفية أحياناً تثقل على النص، فالفلسفة مهمة جداً للفن، لأن الفن عبارة عن رؤية فلسفية جمالية، لكن قد لا يستطيع الفنان التحدث، وكثير من الفنانين متحدثون رديئون، لكن من المؤكد أنه يستطيع طرح ما يريد أن يقوله في لوحته، لكن لا يجب أن تكون المسألة متعمدة، بحيث يصبح النص جافا وعقلانيا ويخلو من العاطفة.

* هل شدتك الموناليزا عند ما رأيتها أول مرة؟
- عند ما رايتها شعرت أنني أمام لوحة عادية جداً، ربما لشدة فضولي، لتلك اللهفة العجيبة لأرى الموناليزا، فكنت متخيلة أن انتظر حالة سحرية، فوقفت أمام صورة شخصية عادية جداً، والموناليزا ليست معجزة فنية بقدر ما هي تعبير عن انتقال فلسفي في الفكر والفن الإنساني، وتركة بُعد رمزي وفلسفي، فكان الإنسان يرسم داخل القصور والبلاط الملكي، وفي حضور كائنات حيوانية وأصدقاء داخل بيئة ارستقراطية، والذي حدث أن دافنشي قرر تحت تأثر النزعة الإنسانية التي ظهرت في التحول من نزعة الكنيسة المسيطرة على الفن إلى النزعة الإنسانية التي ظهرت في القرن الــ19، فقرر دافنشي أن يرسم إنسانة بسيطة على خلفية الطبيعة، فكانت أول لوحة تصوّر على خلفية الطبيعة، وليس داخل بهرجة القصور، وهذا هو الرابط الفلسفي ما بين الكائن البشري والطبيعي، وأن الإنسان ابن الطبيعة وخلقه الله لكي يتمتع بها، لا لأن يعيش داخل أماكن محصورة، وأن يصبح عبداً للكنيسة، وهذا هو التحوّل الحقيقي في الفن. أما ما قيل إنها تبتسم وتبكي، وأنها تتأمل وتسخر من المشاهد، فهذه كلها مسائل اعتقد أنها قضايا أسطورية صنعها النقّاد.

* لماذا اخترتِ اسم "كون" لمرسمك الخاص؟
- فكرت في أسماء كثيرة، والحقيقة أن أختي هي التي سمته، وهي متخصصة في التاريخ، وتعمل باحثة في الآثار، فاقترحت عليّ تسمية مرسمي "كون"، وأنا فوراً توقفت عندها، لأن "كون" هو المعنى الواسع للوجود والفن والحياة، فعند ما نقول: عالم، نتحدث عن الحضور الحسي للعالم، وكون حضور حسي لكل شيء للحياة والموت والمجرد والمحسوس والمرئي واللا مرئي، والله والملائكة والشمس والقمر والإنسان والألم والفرح وكل المشاعر، والكون كل هذا الكيان الكبير، فالفن في وجهة نظري هو ترميز للكون، فالفن هو كون قائم بذاته، يحوي كافة أشكال الحياة المرئية وغير المرئية، وعلاقتنا بالله وعلاقتنا بالعالم الخارجي، علاقتنا بالآخر، علاقتنا الإنسانية، والمشاعر داخلنا، وعلاقتنا بالحيوان، ولهذا السبب إن "كون" أكثر شمولية، ولو أنني لست من أنصار الأفكار الشمولية، ولكنه أكثر شمولية في المعنى، وأكثر فلسفية.

* وماذا عن الـ"اتليه" وجماعة الفن المعاصر؟
- جماعة الفن المعاصر لم نعلن عن حلها، وستظل تربطنا علاقة إبداعية وعلاقة صداقة قويّة.
وتجربة الـ"اتليه" كانت تجربة فنية ناجحة، وأكنّ الكثير للزميلين في جماعة الفن المعاصر: طلال النجار، مظهر نزار، لكن ظروفي هي التي حتمت عليّ أن يكون لديّ مرسم في مكان إقامتي؛ نتيجة مرض والدتي الطويل -الله يرحمها- إلى جانب أن لديّ الكثير من الأحلام الشخصية كفنانة، أردت أن أحققها، وعند ما أقدم تجربة أحيانا بشكل حتمي ربما غير متعمد، أحاول ألاّ أخرج عن السياق الفني والجمالي لجماعة الفن المعاصر، لكني أعتقد أن في محترفي الخاص استطيع التجريب بجرأة أكبر، وفي الوقت نفسه كل فنان في سن معيّنة يطمح أن يكون لديه عالمه الخاص حتى مع استمرار العلاقة الفنية والإنسانية بيننا، والتي لا أعتقد أنها ستنتهي بانتقالنا من المكان، وأنا واثقة من أن طلال النجار ومظهر نزار سيقدمان الكثير في السنوات القادمة، وسيظلان بصمة هامة في تاريخ الحركة التشكيلية اليمنية، وأنا أعتز بهما جدا، وبكل ما قدّمناه معا. صحيفة(السياسية) اليمنية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي