من شرفة أرسطو

2021-08-05

 أرسطو

كه يلان محمد*

يبدأُ التأملُ في جذورالمفاهيم الفلسفية بشقيها التنظيري والعملي، والمنعطفات التي شهدها النشاط العقلي بالعودة إلى لحظة الانشقاق عن الرؤية الأسطورية لتفسير طبيعة الأشياء، والتحول نحو إمكانية تناول الظواهر الكونية، وفق مبادئ المنطق العقلي، ومن المعلوم بأنَّ طاليس هو أول منْ أثار السؤال بشأنِ المبدأ الأول للأشياء، وعلى

منواله تابع غيره من الفلاسفة مناقشة العناصر المكونة للحياة خارج التأويلات الخرافية، وما برح الأفقُ مشرعاً منذ تلك اللحظة على مضمار التفلسف، وبالتالي أصبح التساؤلُ حول أصل الخليقة والمصير وإعمال العقل، ضمن برنامج المدارس الفلسفية في اليونان، لذا تبحثُ التيارات الفلسفية الحديثة عن مسوغاتها في لائحة الفلسفة

اليونانية، وهذا لا يعني النكوص إلى الوراء، بقدر ما يؤكدُ أنَّ التواصل سيكون قائما بين المنظومات الفلسفية، على الرغم من وجود الانقطاعات المعرفية في تاريخ الفكر.

ومن هنا نفهم مغزى ما يقولهُ ألفريد نوريث وايتهد، إنَّ الفلسفة الغربية كلها ليست أكثر من سلسلة هوامش على فلسفة أفلاطون.

 حكمة خالدة

الواقعُ يصدقُ بصحة هذا الرأي عن امتدادات الفلسفة اليونانية في الأفكار المُعاصرة، إذ ما أن يدور الجدلُ عن الجانب التطبيقي في مضمار الفلسفة وفوائده في الحياة اليومية حتى ينتظمَ خيطُ الكلام في سياق الثورة السقراطية، التي تمخضت عن نزول الفلسفة من السماء إلى الأرض، وبالتالي لم تعد حظوةً للقلة فقط.

يذكرُ الكاتبُ العراقي علي حسين في كتابه «أحفاد سقراط» الحوار المتبادل بين سقراط وصديقه، فسأله الأخير عما إذا كان يؤمنُ بقصص اليونانيين، عن بورياس الإله الذي يرسلُ الرياح؟ وما كان من سقراط إلا أن يقولُ إنَّ الوقت لا يسعهُ للبحث عن هذه الفكرة، مضيفاً أنَّ ما يعرفهُ عن نفسه شحيح، لذا فمن الحماقة بالنسبة له النظر إلى الأشياء الخارجية.

مؤدى هذا المنطوق أنَّ وظيفة الفلسفة تتمثلُ في تمكين المرء من معرفة نفسه، وإدراك طاقاته العقلية، ومصدر هواجسه النفسية، الأمر الذي يؤكدُ أنَّ الفلسفة لا ينتهي دورها عند حدود التنظير والتجريد المفاهيمي، بل إنَّ ما يكسبُها أهمية في الوقت الراهن ويحدو بالإنسان المعاصر للعودة إليها هو الجانب العملي في الأفكار الفلسفية، وما يتوفرُ في أروقة الفلاسفة من العزاء، وسط بيئةٍ مليئة بالأوبئة المؤرقة، لذا كان ستيفن غوبز محقاً عندما أبدى استعداده لمقايضة جميع خبراته التكنولوجية، مقابل أمسية مع أبيقور.

لماذا يختارُ صاحب شركة أبل فيلسوف الحديقة دون غيره؟ لأنَّ أبيقور أناط بالفلسفة مهمة تخفيف التوتر الروحي لدى الإنسان، كما وضعها في صميم الحياة الواقعية، وفي ذلك قد حذا حذو سقراط، وبالطبع فإنَّ غوبز ليس وحيداً في البحث داخل صيدلية الفلسفة عن آلية لتحسين مستوى التفكير، بل هناك الكثير من الأشخاص يسلكون الطريق نحو رحاب الفلسفة.

وما ألفته الكاتبة البريطانية إديث هول بعنوان «من هو أرسطو» مرفقاً بجملة استفهامية. كيف يمكن للمعرفة القديمة أن تغير حياتك؟ يصبُ في المساعي الهادفة إلى استلهام الفكرة من المواد الفلسفية، وتبصر المكونات البشرية والوجودية على ضوء الحكمة الخالدة.

ومن الواضح أنَّ أرسطو كان فيلسوفاً موسوعياً غطت مؤلفاته معظم الحقول المعرفية، من الميتافيزيقيا والطبيعة والأخلاق، ناهيك من أفكاره بشأن النظام السياسي وطبائع شخصية الكائن البشري والبلاغة. بلغ إعجاب ديكارت  بأرسطو، درجة اعتقد أن كل ما كتبه أرسطو، سواء أمعن فيه فكره أم لم يمعنه، ينظرُ إليه الإنسان اليوم كأنَّه وحي من السماء.

وأشارت إديث هول إلى ما قاله الفيلسوف روبرت ج. أندرسون حول مؤسس مدرسة الليسوم، فبرأيه لا يوجدُ مفكرُ قديم قد تمكن من مخاطبة هموم الحياة المعاصرة أكثر من أرسطو، وبذلك يبزَّ ليس أقرانه الكلاسيكيين، بل يفوقُ المفكرين المحدثين بما يقدمهُ للبشر في عصر ينخره اللايقين.

مما لا شك فيه أنَّ الترابط بين الفلسفة والحياة العملية قائمُ، وذلك ما أكدَ عليه الأغريقيون وتشبيهاتهم اللافتة إلى ضرورة حركة الجسد والروح في آن، ونسب إلى أبقراط بأن الفكر هو تمشية للروح بالنسبة للبشر.

ومن المعروف أن فلسفة أرسطو ذاع صيتها بالمشائية، لأنَّ النظام الفكري لدى هذا الفيلسوف يرتكزُ على الحماسة للتفاصيل الدقيقة الملموسة للعالم المادي من حولنا، إذن كما تقولُ إديث هول، إنَّ أرسطو إلى جانب موقعه البارز في تطور الفكر الفلسفي، كان عالماً طبيعياً تجريبياً، ولم تفارق عنده الحقيقة ما يمكنُ معاينته بالحواس في الإطار المادي، كما أنَّ رؤيته للتكوين البشري، أعادت القيمة للجسد، فإنَّ الوعي غير منبت الصلة بالكيان العضوي. وتمثلُ التشكيلة البدنية والغريزية، دافعاً للوصول إلى حياة فاضلة وسعيدة.

   

لا ينشأُ أي منهج فلسفي  بمعزل عن مؤثرات شخصية لصاحبه ونمط مُعايناته الواقعية، لذلك فمن الطبيعي وجود وفرة التيارات المنضوية في حلبة النشاط العقلي، طالما يكون التقاطع بين الفكر والتجارب الحياتية أمراً قائماً.

 دليل أرسطو

لا ينشأُ أي منهج فلسفي  بمعزل عن مؤثرات شخصية لصاحبه ونمط مُعايناته الواقعية، لذلك فمن الطبيعي وجود وفرة التيارات المنضوية في حلبة النشاط العقلي، طالما يكون التقاطع بين الفكر والتجارب الحياتية أمراً قائماً، إذ يبدأُ التفلسف في نظر الفيلسوف الأمريكي رويس عندما يفكرُ المرءُ تفكيراً نقدياً في الأمور البديهية،

والظواهر الوجودية، ومستوى التفهم لمتطلبات الحياة اليومية، وبالطبع يتسعُ نطاق فلسفة أرسطو لتناول ما يكونُ بمثابة هواجس وتطلعات أزلية للمجتمع البشري، إضافة إلى رصده لخصوصيات المستوى النفسي في شخصية الإنسان. واختارت إديث هول تقديم دليل لمعرفة المواضيع التي قد تكون جوهرية بالنسبة للفرد، بناءً على ما تضمه فلسفة أرسطو.

ويهمها في هذا الصدد الالتفات إلى التواصل الفعال بين أفكار الفيلسوف وخبراته الحياتية، كما تذكر جانباً من تجاربها الشخصية والمراحل التي عاشتها قبل اكتشاف عالم أرسطو.

إذ تفردُ الفصل الأول للحديث عن مفهوم السعادة ملمحة في البداية إلى أنَّ أرسطو يخالفُ الحكمة التي تفيدُ بأنَّ أفضل أشياء في الحياة هي «العدالة والصحة وتحقيق المرء لرغباته» فالغاية الأساسية وفق مؤلف «أخلاقيات يودميان» هي تحقيق السعادة، وذلك يتحققُ عندما يتمُ تحديد هدف يزيدُ من فرصة الإنسان لتوظيف إمكانياته، وتحسين سلوكياته، إلى أن يصبحَ أفضل نسخة ممكنة في ذاته.

يبدو أن مفهوم السعادة بسيطة في فلسفة أرسطو، ولا يتطلبُ اكتسابها إلا قرارك بأن تصبح سعيداً، غير أنَّ ذلك لا يعني فصل السعادة عن الفضيلة، بل يكون المرءُ محروماً من السعادة، إذا افتقد إلى الشجاعة والإحساس، وفشل في إدارة رغباته الذاتية.

وينفي أرسطو وجود تناقض بين العقل والعاطفة، والعلاقة بين الجانبين هي أقرب لعلاقة بين طرفي المحدب والمقعر لقوس منحنٍ، وما هو غير المتوقع في هذا المبحث هو إشارة أرسطو إلى الحظ بوصفه عاملاً خارجياً، لا يمكنك تحييد دوره إلا في حالة اعتكف فيها المرءُ على الغايات المعرفية واشباع نهم العقل.

تنتقلُ المؤلفة في القسم الثاني إلى مناقشة مفهوم القدرة موضحةً أن الصدق مع النفس يعني معرفة القدرات الكامنة، ومن ثمَّ التعهد بها، وإدراك السبيل الأمثل لتنميتها وما يدفع بهذه العملية للنجاح هو المتعة، فكان أرسطو يؤمنُ بأن الطبيعة تستغلُ عنصر المتعة لمساعدة جميع الحيوانات الواعية في أن تعثر على ما تحتاجه لتزدهر.

يطالُ النقاشُ موضوعاً آخر وهو التدبر وعلاقته بالأسباب والنتائج، فإنَّ كلاً من الخير والشر بنظر أرسطو رهن بإرادتنا وأفعالنا. تتابعُ هولُ دراسة جملة من المفاهيم الأخرى منها الصداقة، وهي أحد أعظم متطلبات الحياة التي لا غنى عنها، كما تبحثُ في موضوع الفراغ وما يعنيه لمزاج الإنسان، فإن خيارك في تحديد النشاط ضمن أوقات فراغك يؤثر في شعورك بالسعادة.

وما يجدرُ بالذكر أنَّ إديث هول لا تقدمُ الأفكار المجردة والمقتبسات من أعمال فيلسوفها المفضل، بل تستعيدُ مشاهدَ من محطات حياتها الأمر الذي تلاحظه من مفتتح الكتاب، إذ تسردُ حيثيات عزوفها عن المعتقدات الدينية محيلةً في هذا السياق إلى بطل فيلم «الختم السابع» الذي كان مرتاباً من المسلمات الدينية خلال فترة تفشي الطاعون في القرن الرابع عشر، ساعياً إلى فهم معنى الحياة.

وتتواردُ في فصول الكتاب الإشارة إلى الأفلام والأعمال الأدبية، بموازة صياغة برنامج مستمدة مقولاته من فلسفة أرسطو، ولا شكَّ في أن هذا الأسلوب يضيف بعداً عملياً للمفاهيم الفلسفية، ويصعدُ من منسوب التشويق في المواد المنبسطة بين دفتي الكتاب، أخيراً فإنَّ النظر من شرفة أرسطو يعني الانفتاح على الحياة بمزاج طيب وروحية مرنة، والتفكير في ما يمثلُ القيمة الجمالية للوجود، والابتعاد عما يورث الشعور بالنكد في الحوار، والأهم هو إدراك ما يحظى به الإنسان من إمكانية للتطور والاستقلال الفكري بفضل العقل.

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي