في انتظار.. "الحداثة الثالثة"

2021-08-03

حداثة ننتظر بزوغها من أجل معالجة تصدعات الحاضر

الفاهم محمد

نعيش في عالم يفتقر إلى الاستقرار، عالم تسوده الفوضى والاضطراب، بل أكثر من هذا فنحن لا نكاد نعرف مدى عمق هذه التحولات التي تقع، وذلك بسبب التسارع المفرط للتقلبات، فالعالم يتغير أمام أنظارنا باستمرار، دون أن يتسنى لنا تكوين تصور واضح عما يحدث، ولا عما ستؤول إليه الأمور.. وقد انكب العديد من الأنساق الفلسفية والأطروحات السوسيولوجية على دراسة مجمل هذه التحولات الشاملة، التي يعرفها عصرنا على كافة المستويات، ولكن لا أحد استطاع بالفعل أن يحدد بدقة طبيعة العالم الجديد القادم..

لا نعرف بالفعل عما إذا كنا نتجه نحو اليوتوبيا أم نحو الديستوبيا.. نحو إنقاذ الأرض واستعادة التوازنات البيئية، أم نحو الخراب والانهيار الشامل للحضارة البشرية / الكولابسولوجيا، فأية حداثة ننتظر بزوغها من أجل معالجة تصدعات الحاضر على صعيد عالمي؟!

دعونا نصف ولو بشكل مقتضب بعض هذه التمزقات، فهناك اليوم هوة كبيرة بين نظام الخطاب ونظام الواقع.. الأول يتضمن فائضاً من الكلام مثلاً عن العولمة، ولكن في المقابل هناك تنامٍ مرَضيّ للبحث عن الهويات المغلقة.. هناك الانغماس التام في الحرية الشخصية، ولكن في المقابل أيضاً فهذه الحرية ليست سوى تكرار لما هو نمطي، واجترار لما قد تمليه علينا وسائل التواصل الجماهيرية من ثقافة الفضائح، إننا نلبس بنفس الطريقة، ونحلق رؤوسنا على نمط واحد، ولنا نفس الأذواق الموسيقية، ونردد نفس الأفكار، ولكننا مع ذلك نتغنى بالحرية الشخصية واستقلالية الذات.

مشهد «التايتانيك»

ونتحدث كذلك عن الاحتباس الحراري، وأخطار الهندسة الجينية وما قد تطرحه من مشاكل أخلاقية، وكذلك عن التحولات المرتبطة بتطور الذكاء الاصطناعي، والتحديات التي يحملها للذكاء البشري، وبين نظام الواقع حيث يبدو أن الحياة الفردية مستمرة في التمتع الجامح برغباتها، وفي الاعتقاد الراسخ بأهمية الخلاص الفردي، وهذان

الوجهان يتعايشان اليوم إلى جانب بعضهما بعضاً، رغم أن أحدهما من المفترض أن ينفي الآخر.. إن الكثير من الحشود البشرية منجرفة في مُتعها رغم كل الأخطار والكوارث التي تقبع بالقرب منها، فما دام أن المراكز التجارية والأسواق الممتازة مليئة بالبضائع فكل شيء على ما يرام.. ولهذا السبب يقول جيل ليبوفتسكي بحق:

«إن الفراغ هو الذي يحكم الآن، لكنه فراغ لا يمثل مأساة أو نهاية للعالم»، (عصر الفراغ ص 12)، أما الفيلسوف الفرنسي المعاصر مشيل انفراي فقد شبه هذا الوضع بمشهد فيلم «التايتانيك»، حيث السفينة تغرق بينما تستمر مجموعة في العزف كما لو أنه لا شيء يحدث.

الحداثة الثالثة

وبدوره، يميز السوسيولوجي الألماني أولريش بيك بين الحداثة الأولى وهي حداثة القرن الثامن عشر، التي ظلت تتبجح مزهوّة بمطلقاتها، والحداثة الثانية التي نعيشها حالياً، والتي تتميز بالأزمة البيئية وظاهرة العولمة، وبجملة من التحولات الاجتماعية، التي يغلب عليها طابع الاستهلاك والفردانية، والعزوف عن المشاركة السياسية وغيرها من الظواهر.

ويشير الكاتب إلى أن ما هو مطلوب اليوم، ليس إحداث تغييرات تقوم بها أحزاب أو حركات اجتماعية كما كان في الماضي. بل إن ما ينبغي تغييره هو الأسس العامة التي تقوم عليها الحضارة «لم يعد التغيير في المجتمع، وإنما تغيير المجتمع، المجتمع كله»، (هذا العالم الجديد ص 22).

فهل يمكننا أن نفكر إذن في حداثة ثالثة، حداثة جديدة تتجاوز الأزمات التي نعاني منها اليوم، سواء على صعيد البيئة أو التطور التكنولوجي أو التحولات الاجتماعية؟ يظهر كما لو أن المستقبل منيع عن التفكير فهو غامض ومخيف، ولكن أليست غريزة الخوف ـكما رأى نيتشه في «المعرفة المرحة»ـ هي ما تشكل إرادتنا لطلب الحقيقة؟ دعونا إذن نخط ها هنا ولو بشكل أولي المعالم الأساسية لهذه الحداثة الجديدة:

أولاً: لابد أن تكون ناعمة soft modernity وليست صلبة كما كانت الحداثة الكلاسيكية، والتي كانت تؤمن إيماناً أعمى بقيمة التقدم الخطي، وبإمكانية قياس وحساب العالم بطريقة ثابتة، وبالخلاص الذي سيؤسسه العلم والتقنية.. وينبغي للحداثة الثالثة أن تبتعد عن مثل هذا التصور الطوباوي للمجتمع والحضارة الإنسانية، وأن تتخلى عن وعيها الظافر بالعالم.

ثانياً: أن تفسح المجال لما هو روحي، بدل اختزال الوجود برمته فيما هو مادي، لقد آن الأوان كي نضع الجسور بين التقنية والروح، بين التحقق المادي والتحقق الروحي، إذ لابد من التفكير بطريقة مركبة.. وهذه الإمكانية الجديدة يتيحها لنا العلم المعاصر، خاصة الفيزياء الكوانطية التي تتجاوز بكثير الميكانيكا الكلاسيكة، معيدة تشكيل منظورنا لذواتنا ولمكانتنا في الكون.

ثالثاً: أن تعتني بالجانب الأخلاقي، وهذا معناه أنه يجب عليها أن تكون متصالحة مع البيئة، ومع الغايات الإنسانية العليا، بدل قيم الربح والمردودية والسيطرة الاقتصادية.

رابعاً: أن تكون ذات أوجه متعددة Poliform بحيث تستوعب الاختلاف والتعدد والمغايرة، على خلاف الحداثة الأنوارية التي كانت تطمح إلى فرض نموذج واحد ووحيد، للبناء الحضاري هو النموذج الغربي. إن الوضع الحضاري الذي نعرفه حالياً ملتبس جداً، فالحداثة التي نعيشها ناقصة وغير مكتملة، بل إن برينو لاتور

يزيد الأمر حدة مؤكداً أن الغرب لم يكن حداثياً أبداً، وأن «الحداثة لم تبدأ قط، ولم يكن هناك من عالم حداثي» (ص 90)، وإذن فما نعرفه هو خليط من ما بعد الحداثة بنزعتها الرومانسية وحنينها إلى اللاحداثة، مع الحداثة الفائقة l›hyper modernité ذات الطابع المفرط في كل شيء، والتي جعلت: «برموتيوس بلا قيود» وهو يبحث عن حلم الوصول بالتحكم في الطبيعة عبر التكنولوجيا الفائقة إلى مداه الأقصى. وبطريقة أخرى،

فنحن في وضع انتظاري لهذه الحداثة المرتقبة، وليس علينا أن نتابع الهروب إلى الأمام بأعين مغمضة، غارقين في اللامبالاة والاستهلاك المعمم، للمتع الحسية التي توفرها حضارتنا، أو عابثين بالتجارب الخطيرة حول الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية. وقد تبدو هذه الحداثة مستحيلة ومنيعة ضد التحقق، ولكن مع ذلك فإن علينا أن نجعلها ممكنة، إنه إلزام وواجب أخلاقي تجاه الأرض والكائنات الأخرى، تجاه أنفسنا، وتجاه الأجيال القادمة التي نتحمل مسؤوليتها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي