كيمياءُ الأجساد.. حين «تعشقُ الأذنُ قبل العيْنِ أحياناً»

2021-07-31

د. يوسف رحايمي *

لم يكن «بشار بن برد» من أصحاب الترف في القول حين أنشد «يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة والأذن تعشقُ قبل العيْن أحياناً» افتنانا بصوت امرأة في مجلس وقع في عشقها، ولم يكن ذلك الفتى الخجول بقادر على أن يُصارحني بأنّ «فتاة الهاتف» - إنْ صحّ التّوصيف- التي لم يرها قطُّ تشدُّ ذائقته بصوتها، وأنّه أصبح مفتوناً بها بين عشية وضحاها، فكلاهما استحسن صوتاً فأحبّ صاحبته، وهذا يحدث للكثير منّا في حياته اليوميّة، فنحن كائنات تحسّ وتتفاعل، وتميلُ إلى أن تسمع ما يُطربها وإنْ لم تره أحيانا.

فالصوت يُحدث في النفوس ما لا تُحدثه أشياء أخرى، وهذا ما جعل بشار يردّ على لائمه «قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا».

وقد يتساءل البعض ما وراء هذه الفلسفة التي تتحرّك وفقها أجسادنا، وكيف يصل بالإنسان إلى أن يُحبّ دون أن يرى؟ أي تفاعل وأي كيمياء تحصل لأجسادنا حينما نتواصل؟

فرضية الجسدنة

أسئلة قد لا تكون جديدة عند البعض، فنحن نحبّ وكفى، ولسنا مُجبرين في بعض الحالات على أن نفتّش فيما وراء الأحاسيس، فهي على رأي البعض تأتي مُصادفة، وعلى رأي البعض الآخر مجرّد التقاء للأرواح والقناعات والأفكار، أما نحنُ فنميلُ إلى قراءة أخرى نشدُّ بها وثاق الشعر إلى تصوّرات حديثة تستأنس بعلم النفس العرفاني، وبتصوّر العرفانيين Cognitive نسبة لعلوم العرفان أو الإدراك كما يحلو للبعض أن يُسمّيها أو يُترجمها، وهو تصوّر يسير اليوم بخطى سريعة نحو نتائج مبهرة. فلسفة هذا التصور قائمة على اعتبار جديد تُسيّره جملة من الفرضيات.

فما يؤكّد عليه العرفانيون اليوم أنّ نشاطنا الذهنيّ المغرق في التّجريد يستفيد بصورة دقيقة من أجسادنا، وهذا ما بات يُعرف بفرضية الجسدنة Embodiment Thesis، وكما يقول قريرة «لسنا نحتاج أجساداً كي نفكّر وحسب بل إنّ بنية تفكيرنا نفسها تنبثق من جزئيات جسدنتنا»، أي أنّ تفكيرنا في الأشياء من حولنا ليس منفصلاً عن نظامنا البصري والسمعي والإشاري...إلخ.

وهذا من شأنه أن يهدم الفرضية القديمة التي ترى أنّ العقل مستقل عن الإدراك والعاطفة، ويؤسّس لتصوّر جديد يربط العقل بقدراتنا الجسدية، وكما يرى «ديباك تشوبرا» «أنّ العقل والجسد هما من مصدر خلاّق واحد يسمى الحياة».

التمثّلات والتصورات

إنّ الأذن إذْ «تعشقُ قبل العين أحيانا» صورة شعريّة تسافر بنا عرفانياً من منطقة المجرّد المتعالي إلى الحسي الملموس يتحوّل فيه حسيس الصوت بمنزلة دماء تسري في عروق المعشوق، فيُحدث فيه حالة غرامية بفضلها ينسج شعراً كما أنشد بشار، وهذا يكشف عن قدرة الصوت في بناء تمثّل عشقي.

فالسمعُ خاصية جسدّية تقوم بدورها الأذن بوصفها أداة مُعدّة لهذا الدور. وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: أهي نشوة الصوت، أم نشوة ما يُحيل عليه الصوت من إدراك وتصوّر وتمثّل؟ وقد نجيب هنا إنّها قدرة التمثّلات والتصورات، إنّه الانسجام الروحي في المقام الأوّل، فنحن حين نطرب لسماع فنانين من قبيل«أم كلثوم» أو «فيروز» في الحقيقة لا نطرب اعتباطاً، وإنّما لأنّ ما نسمعه يُبحر بنا في عوالم أخرى لها في أذهاننا تمثّلات وتصوّرات، هذا خلافا إلى طبيعة الصوت ورقته، وجملة الألاعيب في المدّ والنبر والتّنغيم.

ولعلّ هذا يجد دعائمه عند العرفانيين اليوم في حديثهم عن الأدوار التي يلعبها الإيقاع في الشعر، حيث انّ السمع يحوّل الكلام الملقى إلى عوالم نبصرها تمثّلاً، وهذا على رأي «تسور» (Tusr)، فما نسمعه لاشك في أنّه يُحفّز وينشّط فينا سمات وتصورات معيّنة، وعلى هذا الأساس فما نسمعه ليس مجرّد صوت فقط بل هو أبعد من ذلك، إنّه ضربٌ من التصورات عن ذلك الشيء، وهذا في اعتقادنا ما جعل بشار بن برد يقول الأذن تعشق قبل العين أحيانا، فالعشق هنا للتمثّل والتصور وليس للصوت فقط.

نواميس الجسد

ولعلّ إدخال نواميس الجسد (الإبصار، السمع، الكلام، الإشارة) في العشق ليس بغريب، فهي ظاهرة شعرية قديمة احتفى بها الشعر الجاهلي وما بعده، فقد حفظت لنا المدونة الشعرية قديماً وحديثاً أبياتا عن قدرة العين وأدوارها في العشق من قبيل «رمتني بشهاب عين مليحة عذراء»، وقيل أيضا «السيف في الغمد لا تُخشى مضاربه سيف عينيك في الحالين بتار» وقيل «سقتني بعينها الهوى»، ولكنّ طرافة العشق بالسمع كامنة في ذلك الاستثناء والانزياح عن العين العاشقة، إلى الأذن العاشقة. حيث انزاحت العين لتفسح المجال للأذن حتى تقيم وتؤسّس لغزل جديد هو «الغزل بالسمع».

وهذا ربما ما يجعل البعض يفتّش عن مداخل يُصنّف فيها الموسيقى والغناء في باب المحرّمات كما تصنّف الخمرة، ووجه الالتقاء كامن فيما يحدثانه من نشوة، فيحدث أن ينتشي الإنسان بالصوت كما ينتشي بالخمرة.

وقد تكون فلسفة هذا الفهم قائمة على تداخل معطيين جمعت بينهما استعارة تصوريّة بالمفهوم العرفاني، وهي استعارة «العشق موسيقى» تطرب الأذان وتدغدغ المسامع حتى تذعن لها، وكذلك العشق حين يحل بالإنسان فيطربه ويجعله ينتشي، وهذه الاستعارة هي واحدة من بين الاستعارات الأخرى التي يمكن أن نعثر عليها في مدونات الشعر، حين نربط العشق بالخمر مثلا، وهذا ما كثّف من استعماله أبو نواس. 

التفكير بالسمع

إنّنا مع بشار بن برد أمام تصنيف أيقوني لطرائق العشق، تكون فيه العين هي الأصل المرجعيّ، وتأتي الأذن فيما بعد هامشاً باعتباره يجعلها قادرة على العشق أحيانا، وهذا الهامش هو الذي يستفزّ انتباه المتلقي، حيث نجد في شعر بشار حلاوة التلقي باعتباره يكسر المألوف، وهذا المعطى قد يُحيلنا إلى أنّ فلسفة العشق في تلك العصور وضمن الثقافة العربية قائمة بدرجة أولى على محاسن الجسد وجماله وتفاصيله، لهذا تجد الشاعر العربي يفتن بجسد المرأة ويُطيل الوصف فيه.

وقد يكون بشار بهذا التصوّر يؤسّس لخطّ جديد في الشعر يقوم على التفكير بالسمع، أو يجعل من السمع سبيلاً من سُبل إنتاج المعرفة، هذا مع ضرورة التّنبيه إلى بُعد نفسي، قد يكون فيه بشار في إطار حالة تعويض عن فقدان البصر.

ومن المناسب في هذا السياق أن نستقي قصة «الشاعر» للمنفلوطي حين يتحدّث فيها عن ذلك الشاب «سيرانو» القبيح والفصيح في الوقت نفسه، والقادر على التّأثير في الناس بعمق لسانه وحلاوة كلامه، ذلك الذي أحبّ ابنة عمه رغم حُبّها لشخص آخر يُدعى «كرستيان».

لقد صوّر المنفلوطي في هذه القصة الصفقة التي عقدها الشابان أحدهما بالجمال الخلقي وآخر بجماله الروحي لكي يعشقا الفتاة نفسها، «فسيرانو» المبدع كلاماً أحبته ابنة عمه من خلاله ما ينظم من شعر وفصاحة رغم وصولها على لسان «كرستيان»، يمكن أن يكون في هذا السياق مثالاً يُجسّد كيمياء الأجساد، كيمياء التصورات، كيمياء الأرواح، لاسيما حين يقول لصديقه «أنت بحسنك وجمالك وأنا بفصاحتي وبياني، تسمع صوتي ولكن من فمك، وتحسّ بروحي ولكن بجسمك، وتشرب عواطفي ولكن من كأسك، وتطرب لنغماتي ولكن من قيثارتك».

ومن هذا المنطلق مثّل الشعر بهذا المعطى خلقاً رمزياً للإحساس البشري، حيث كان تتويجا لكيمياء الأجساد التي قد تعشق بالصوت أو بالكلام أو بالإشارة، ولهذا فإنّ ما يُثير الانتباه هو تلك الوضعية الإدراكية التي بنى فيها بشار بيته الشعري، وعلينا لكي نفهم أن نعود إلى تفاصيلها لنفهم إدراكيا كيف بناها، ولكي نفهم كيف بناها يجب أن نتيقّن جيدا أنّنا يمكن أن نعيشها فعلاً أو أنها قد مرّت علينا يوما في تجربتنا مع الكون من حولنا دون أن نكون قد التقطنا تفاصيلها أو انتبهنا إليها.

اللعبة الإدراكيّة

ما حدث في هذا البيت الذي نطقت به شفاه «بشار بن برد» هو ضربٌ من كيمياء الأجساد يُخفي لعبة إدراكيّة عميقة، كائنة في أغوار الذهن البشري وطريقة تشفيره للأشياء والموجودات، فأجسادنا بما فيها من «ميكانيزمات» تتعامل مع ما يُنبّهها من الخارج بطريقة إبداعية، ولعلّ ما يهمنا في هذا الإطار هو حاسة السمع التي التقطت كلاما جاءها من المحيط الخارجي وحاولت تشفيره إلى حالة عبر تمثّله تمثّلا عميقا، فبشار بن برد

(وعلى افتراض أنّه لا يتكلم مجازا أي أنّه شعر بعشق ذلك الصوت حقا)، لفت النّظر إلى إبداع جديد يتجاوز العشق بالنّظر إلى العشق بالسمع، وهذا الضرب الجديد أو الفلسفة الجديدة لا تقوّض ما يحدث في العادة حين نعشق بالنظر، وإنّما هي من باب «تفاعل الحواس» كما يقول توفيق قريرة في كتابه الشعريّة العرفانية، أو كما ندّعي هنا في هذه السطور بكونها كيمياء الأجساد التي تتم بضرب من التقاء بين الشيء وصنوه، تسيّره في الأصل جملة من الافتراضات العقلية التي بناها الإنسان عبر رحلته في الوجود.

المنعطف

إنَّ ما أنتجه بشار من شعر «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» لم يكن مجرّد بيت وكفى، وإنّما هو حالة إدراكية عرفانية تمرّ في اعتقادنا بمراحل تبدأ حسب تصوّر العرفانيين من المثيرات (الصوت في هذه الحالة) في علاقته بالجسد وما ينتجه من تفاعل مع الذهن البشري بما هو ذات فاعلة وناطقة في محيطها الثقافي، وبالتالي إنتاج هذه الحالة الشعورية التي نراها في اعتقادنا تأسيساً لخطّ جديد في الشعر يجعل من الصوت مقياسا في العشق.

وقد يكون هذا منعرجاً مهماً في إعادة قراءة الشعر بتصور عرفاني إدراكي، لاسيما أنّ المدونة العربية مليئة بتفاصيل العشق التي رسمت لها أقلام الشعراء أجزل العبارات والتراكيب وأرقى الصور والمفاهيم تحت بنية إدراكية معيّنة، وأهم ما يمكن أن نظفر به هو الكيفية التي يدرك بها الشاعر العربي العشق.

إنّ المنعطف الذي أحدثه بشار في هذا البيت هو جعله الأذن عاشقة قبل العين، وليس كما قال أحيانا، وإنّما قد تكون دوماً، وهذا ربما يُعيد ترتيب قوانين العشق بما يليق بفئة فاقدي النّظر، الذين يجدون في شعر بشار ملاذا تخيليا يبنون في إطاره عوالمهم المدركة.

وإن نزلنا هذا الشعار في واقعنا الحالي فسنجد أنّنا أكثر الكائنات عشقا بالسمع، فنحن اليوم وفي ظلّ التكنولوجيا الحديثة نحبّ خلف شاشات ومواقع «فيسبوك» أو خلف هسهسة تنقلها لنا هواتف ذكية، فنكتفي بالسمع لأحدهم حتى نعشقه، ولكن بين العشق تحت وقْع الأصوات والكلمات والتصوّرات، والعشق تحت سطوة التكنولوجيا مسافات نعتقد أنّها تحتاج إلى إعادة تفكير بمنطق جديد يأخذ بعين الاعتبار ما تفرضه السياقات الجديدة.

 

  • أكاديمي وناقد تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي