من مشكلات السرد في «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس

2021-07-27

إبراهيم خليل

على الكاتب الروائي، سواء فاز بالبوكر العالمية أم لم يفز، أن يلتزم بقواعد السرد، وأولى تلك القواعد أن لا تتضارب الوقائع، وألا يذكر الحدث إلا إذا كان ثمة ما يبرر ذكره، ولا ينسب للشخوص من أفعال وأقوال إلا ما يتناسب مع طبيعتها من حيث هي شخوص، وألا يكون في موقع غرائبيا عجائبيا، وفي آخر واقعيا يلتزم بمنطق السرد الذي يقوم على محاكاة الحياة اليومية لا على الفانتازيا التي تبيح للكاتب الانفلات من قيود هذه المحاكاة، وأن لا يعتمد فيها على المفاجآت ولاسيما تلك التي تترتب عليها تحولات سردية ذات أثر في ما تبقى من الحكاية؟

وقد فاجأنا الكاتب من مقدمة الرواية، بالخروج على هذه القواعد فذكر في فقرة من الاستهلال أن سؤالا «ظل أمام عينيه معلقا منذ تلك السنة» وإذا أعاد القارئ قراءة الصفحة من الكلمة الأولى حتى نهاية العبارة، فلن يجد أي ذكر لسنة ما قصدها بكلمة (تلك) فاسم الإشارة – ها هنا – يفترض أن يحيلنا إلى سنة محددة، ذكرت سابقا لكنه لم يذكر شيئا كهذا، مما يوحي بغموض هذه الإشارة التي تحدد في الواقع بداية حدثٍ ما. فهي – في هذه الحال – يمكنها أن تعني السنة الماضية أو السنة التي مضت منذ ألف عام أو أكثر، وهذا ينم عن أن المؤلف – للأسف – لم يقم بمراجعة ما كتب، ففي أقل الاحتمالات توقعا يتوجب أن يسأل نفسه: أي سنة تلك التي أعنيها بهذه الإشارة؟

وهذه الملاحظة التي يقف عليها القارئ في مقدمة الرواية تسفر عن موقف، أو انطباع في غير صالح المؤلف، إذ تؤكد أنه يتعجل الكتابة، ولا يهتم بتنقيح، وضبط، ما يكتبه، وينشره. وفي ما يكون السرد منصبا على اكتساب الوراق لمهاراته الحاسوبية، وعلى إنشائه حسابا له على فيسبوك باسم مستعار، وهو ديوجين، يظهر الجنين الذي في بطنه فجأة، وفي ما هو يعاني من هذا الشريك الذي يمثل ضربا من الازدواجية في شخصيته، ظهرت ليلى في ذكره لها للمرة الأولى، ليتضح أنها من بنات الملجأ، وها هنا يبدأ التداخل الروائي وهو بالمناسبة شائع جدا في «دفاتر الوراق» – مع رواية ليلى الأطرش «أبناء الريح» (2013) وسوف ينسى المؤلف هذه الشخصية، ولن يعود إلى ذكرها إلا في ص 57 وفي ص 137 يذكرها هي وأسماء وماجدة وهما تديران بيتا للدعارة.

وفي تناوله لشخصية الوراق، لم يقم بتعريفنا به تعريفا مباشراً، وإنما ذكر لنا رحيل الأسرة من القرية إلى عمان، وأن الأحداث التي تروى تقع بعد 35 عاما من الرحيل الذي جرى في سنة 1980 ويقول لنا: إن أخاه عاهداً اختفى بعد سنين من ذلك لكونه لا يريد أن يكون نسخة من أبيه.

وفي تناوله لشخصية الوراق، لم يقم بتعريفنا به تعريفا مباشراً، وإنما ذكر لنا رحيل الأسرة من القرية إلى عمان، وأن الأحداث التي تروى تقع بعد 35 عاما من الرحيل الذي جرى في سنة 1980 ويقول لنا: إن أخاه عاهداً اختفى بعد سنين من ذلك لكونه لا يريد أن يكون نسخة من أبيه. ولا يعرف القارئ هل كان اختفاءُ عاهد قبل وفاة الأم بالسرطان، أم بعدها، ومن إشارته بعبارة (كلاجئ سوري) يتضح أن ما يروى من أحداث وقعتْ بعد عام 2011 لأن عبارة لاجئ سوري لم تشع في تركيا إلا بعد هذه السنة. ومن الواضح أنّ الكاتب يبدو مرتبكاً في بداياته، وفي تحديده لزمن وقائع هذه الرواية، وهو معذور في ذلك، لأن الحوادث تساق بطريقة غير محكمة، ولا تخضع لمقاييس الأدب الروائي بالمعنى الاصطلاحي. فهو يشير مثلا- لانتحار الأب في المطبخ قائلا «سمِعْت في اللحظات التي أنا متأرجح فيها بين النوم والصحو جلبة في المطبخ، فنهضت، وإذا بأبي أجده قد علق حبلا في سقف الغرفة، ولفه حول عنقه، ووقف على الكرسي». ونلاحظ أن الراوي عدل عن المطبخ للغرفة، فأين جرى الانتحار، في الغرفة أم في المطبخ؟ وهذا قد لا يبدو مهما، لكن الأهم أن المسافة أقصر من أن تمنع تدخل الابن الشاب لإنقاذ أبيه، ومنعه من الانتحار، إلا إذا كان الابن لا فرق لديه بين انتحار أبيه وعدمه.

وفي هذا يلفتُ الانتباه إلى أنَّ المؤلف لم يعرّفنا بأحد طباع الوراق النفسية، والاجتماعية، فلو أنه هب فوراً لينقذ أباه، وقد سمع الجلبة، لكان في ذلك ضوءٌ يسلطه الكاتب على الجانب السيكولوجي والاجتماعي من إبراهيم الوراق، لكنه لا يبدو معنيا بهذا، إنما الذي يعنيه ما يذكره بعيد ذلك من ازدواجية فرضت عليه عن طريق الجنين الذي يتكرَّر ذكرهُ، وهو يوجّه للوراق أوامره، ونواهيه، وشتائمه. ومن هنا تبدو لنا شخصية الوراق، هو، والذي في بطنه، شخصيتين غرائبيتين، لكن تصرفاته تتناقض مع هذه الغرائبية، ولاسيما في توجهه للشرطة تارة، وللطبيب تارة أخرى. ففي المكتب رقم 4 حوارٌ بين الوراق وضابط يجري بأسلوب كاريكاتيري لا يمكن تصوره إلا في فيلم من الأفلام الهندية، علاوة على أنَّ العرض، يثير لدى القارئ تساؤلا عما إذا كانت الشرطة تصغي لمثل هذا الهراء الذي يدعي فيه الوراق أن في بطنه مجرما. وهذا يشكك في الطابع الغرائبي للسرد وللتشخيص. والسؤال هو: هل ثمة علاقة بين كشفه عن هذا الجنين المحتمل، وانتحار أبيه؟ ذلك الانتحار الذي وقع فجأة دون تمهيد، وبلا أسباب تذكر، ولا دوافع، في بدء الرواية، ودونما سعي لإنقاذه من أفراد الأسرة، لاسيما وأن الوقت الذي يفصل بين سماع الجلَبَة في المطبخ ووقوع الانتحار أقصر من أن يحول دون تدخُّل الوراق. وهذا ما لا تقره قواعد الاحتمال في السرد القصصي والروائي المقبول. إذ كان يُفترض أن يقوم الأبُ بالانتحار اثناء خلو المنزل من الناس، أو في أسوأ الأحوال أن يتدخل الابن، وقد أقرَّ بوجوده، فيمنع أباه من دفع الكرسي بقدميه في مشهد يذكرنا ببعض المسلسلات. وهذا يسيرٌ عليه جداً. والوقت لا يحول دون ذلك، ولا المسافة بين المطبخ وباقي الغرف. وهذا الموقف الذي يقع في بداية الرواية، كالموقف السابق، يعطي القارئ – بلا ريب – انطباعا عن الرواية أقلّ ما فيه أنها غير جيدة، وعن الروائي أقل ما فيه أنه متسرع، ولا يدقق في ما يتخيله ويرويه، وهل يمكن لهذا الموقف أن ينْطلي على القارئ، أم أنّ القارئ ليس ساذجا ليتقبل مثل هذه المحكيات المفتعلة.

والمعروف أن السرد منه ما يعتمد على تكرار بعض الحوادث، في ما يعرف باسم التواترfrequency وهو أن يروي الكاتب حدثا، وقع مرة واحدة، مرارا، على أن المؤلف في «دفاتر الوراق» يأتي بهذا التواتر بطريقة فجة، ومثيرة للسخرية، فما إن تذكر ليلى- ابنة الملجأ – حتى يعاد ذكر التحرُّش حتى لو كانت متنكرة في زي رجل شاب، أما الفتاتان الأخريان ماجدة وأسماء فلا يذكرهما إلا وقد جعل منهما عاهرتين تديران بيتا للدعارة، فهل كان متوقعا ممن يغادرون ملجأ الأيتام بعد هاتيك التربية والرعاية الاجتماعية أن يكونوا كذلك رعاة للفسق والدعارة؟ وهل ينبغي لكل من نشأ هذه النشأة، ولقي مثل هاتيك التربية، أن يغدو على هذا اللون من الانحراف؟ على أن التواتر – ها هنا – ليس بمقنع، إذ كيف تأتى للرجال الثلاثة الذين تحرَّشوا متفرقين، وبأوقات متباعدة، أن يتوقعوا من ليلى أنها فريسة سهلة، وأنها من بنات الملجأ، فاختاروها هي بالذات لممارسة سفالاتهم، وهي صورة من السرد المفتعل الذي يوحي بأن أحياء عمان الراقية كالشميساني، وعدون، رجالها من الضِباع التي ما إنْ تقعُ أبصارها على الفتاة حتى تظنها حمَلا وديعاً سهْلا اصطيادُه، لا في أمكنة خفية متوارية، بل في الشارع العام.

وهذا ينمّ عن اختلاف مرعب بين رؤية الأطرش في روايتها «أبناء الريح» والكاتب جلال برجس، فقد كانت الكاتبة مبتكرة في اختيارها للموضوع، فيما بدا الكاتب مقلدا أفْسَدَه بتقليده. على أن الإشكالية الأكثر خطرا مما سبق إشكالية الانتحار الغريب.

وهذا ينمّ عن اختلاف مرعب بين رؤية الأطرش في روايتها «أبناء الريح» والكاتب جلال برجس، فقد كانت الكاتبة مبتكرة في اختيارها للموضوع، فيما بدا الكاتب مقلدا أفْسَدَه بتقليده. على أن الإشكالية الأكثر خطرا مما سبق إشكالية الانتحار الغريب. ففي رواية «أنا كارنينا» لتولستوي، وكذلك في «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير، وفي رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، ثمة منتحرون، وهم من أبطال الروايات الثلاث. وكان كل منهم، وفقا لما جاء في الروايات يتخذ قراره بالانتحار، ويبادر لذلك منفذا، وهو في أوج اليأس الذي يقوده لهذا الفعل غير المرغوب فيه أساساً. بيد أن الوراق على مذهب الكاتب برجس لم يفعل كغيره من المنتحرين، أو المقبلين على الانتحار، فقد اختار الطريقة الغريبة التي يريد بها الانتحار، وهي السفر إلى العقبة التي تذكرنا هنا بالروشة في بيروت، وإلقاء نفسه في البحر ليكون الماءُ قبرا له لا تراب الوطن، وقد جمع ما لديه من (تحويشة) العمر ألفي دينار، وهاتفه المحمول. ومضى مستقلا حافلة من الحافلات السياحية ليقضي في الطريق الصحراوي 6 ساعات، لم يرفّ له جفن، وعندما وصل الثغر الأردني الباسم، قصد فندقا على الشاطئ، وحجز غرفة مطلة على الخليج، وقضى ليلة نابغية مع زجاجة ويسكي، وهو الذي ذكر لنا أنه لم يسبق أن احتسى خمرا في حياته قط. فلمَ طلب من النادلة الحسناء زجاجة ويسكي مع أنه ليس مدمنا ولا سِكيرا؟ السبب بسيط في رأي المؤلف، فقد وجد بينه وبين فردريك هنري أحد شخوص همنغواي في روايته «وداعا للسلاح» شبهاً، فهنري هذا كان مجبرا على الذهاب للقتال في الحرب، ولا يعرف ما إذا كان سيكتب له الموت، أم النجاة، فأراد أن يتسلى مع محبوبته كاترين بالسُكر، لكن الوراق لم تكن له محبوبة مثل كاترين، وليس مجبرا على الذهاب للقتال في الحرب، فإذا كان يخشى نتيجة الإقدام على الانتحار، فلمَ يفكر فيه أساساً، وبدلا من التلهّي بالويسكي ليصرف النظر عن هذا القرار، ويعود من حيث أتى، ولا يحتاج لا للويسكي، ولا ما يحزنون. بيد أن المؤلف يجد نفسه مضطراً لإقحام حكاية فريدريك هذا من غير أن تكون لها ضرورة. ومثل هذا سائرُ الإقحامات التي لجأ إليها، سواء تلك التي ذكر فيها رواية «أحدب نوتردام» لهوغو، أو «طبل الصفيح» لغونترغراس أو «اللص والكلاب» أو «الثلاثية» لنجيب محفوظ، وغيرها.. من روايات يريد فيها المؤلف التباهي بالاطلاع على الروايات العالمية، وهذا ينشأ عنه ردّ فعلي عكسي لدى القارئ، لأن من ينحو هذا المنحى يشكك في دقة ادعائه، وفي مصداقيته، وقد قرأنا لكتاب عالميين لا شك في عبقريتهم مثل دستويفسكي، أو تولستوي، أو دكنز، أو نجيب محفوظ، ولم نجد في رواياتهم مثل هذه الإشارات، ولا استخدموا فيها شخصياتٍ أخرى، ولا حكاياتٍ أخرى، مقتبسة من روايات الآخرين اقتباساً ينم عن خطأ في فهم المؤلف لدلالاتها، وهذه الإقحامات لا تعدو كونها – في نهاية المطاف – إساءة لأولئك المؤلفين. وصفوة القول في هذه الإطلالة الموجزة على إشكاليات السرد في «دفاتر الوراق» أنها تفتح الطريق أمام الدارس لتناول مشكلات أخرى يضيق عن استقصائها، والإحاطة بها، هذا المقال القصير.

ناقد وأكاديمي من الأردن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي