
صلاح بن عياد
وصفة لعشاء الميت
تملي امرأة تونسية على أبنائها وهي على فراش الموت، وصية غريبة من نوعها (من بين أولادها من هو صديقنا).
بنود الوصية هي ما عليهم إعداده يوم موتها: أكلات حبذتها طوال الحياة: "طاجين ملسوقة، كسكسي بالزبيب وسلطة مشوية".
وكأن الموت أصبح مناسبة عادية لا علاقة لها بما يجول في داخلنا من رفض، هل هي فرصة تلك المرأة الأخيرة كي يفوح اسمها فوق موائد الجنازة؟
الملاحظ اليوم أن درجة الحزن في حضرة الميت تزداد بروداً، وخصوصاً في ظل انتشار الوباء. وقد لا يتعدى الحزن ساعة الصدمة الأولى، ليغرق فيما بعد أقرب الأقرباء في حركات ميكانيكية بلا روح وبلا رفض.
طقوس تبعد الموت من الذهن، فيكف معها أن يكون ذلك الحدث الوجودي الجلل. ينسى بخدمة الوافدين وإطعامهم مقابل مواساة معادة حركة وقولاً: "البركة فيك" مع مصافحات بالأيدي اليمنى. كما تنتشر خرافات "عشاء الميت" ومفتاح "الجنان" فوق الجثة، على بعد خطوة من المقبرة التي عادة ما تكون بعيدة عن العيون، خلف البيوت.
كل هذه التفاصيل التي تتعدد وتتنوع من منطقة إلى أخرى تحول دون التفكير في الموت أو الحزن على الميت، ونادراً ما تجد أمام منزل الجنازة أناساً يتحدثون عن الموت، بل يغرقون في حكايات تخوض في أدق تفاصيل الحياة كما لم يحكَ فيها من قبل.
وقد يكون الأمر نوعاً من الهروب من صفة الممدد غير بعيد عنهم.
البيت الأخير
لا يبقى من الإنسان في المشهد الظاهر سوى قبر، "مثواه الأخير" الذي يعمر أكثر من الكائن نفسه، منزله الذي سيواصل الصمود كجزئية تحيل إليه، لذلك نتحدث عن زيارة المقابر أو المقبرة/الجبانة لا زيارة الأموات أو الميت.
العبارة الأخيرة مرعبة، والميت هو من يتحول إلى شبح مخيف لا قبره، لذلك فهو إذن تلطيف الجثة وإزالة الخوف الذي ينبعث منها.
لا يبقى من الإنسان في المشهد الظاهر سوى قبر، "مثواه الأخير" الذي يعمر أكثر من الكائن نفسه، منزله الذي سيواصل الصمود كجزئية تحيل إليه، لذلك نتحدث عن زيارة المقابر أو المقبرة/الجبانة لا زيارة الأموات أو الميت
تحدت أنتيجون، في المسرحية الإغريقية الشهيرة "كريون"، بوضعها لقبضة تراب على جثة أخيها الملعون بعدم دفنه. كانت حركتها تلك إخفاء لما يمكن للميت أن يصبح.
الغرابان اللذان ظهرا لقابيل يدلانه عن ملاذ لسوأته: جثة هابيل المرداة، "يد الميت" في الخرافات الشعبية التونسية وما يمكن أن تنجزه في عالم السحر إذا أديرت سبع مرات في "الكسكسي"؟ حرق الجثة في عديد الديانات الآسيوية تطهير للحياة من الموت كصفة شريرة، إلخ…
الكتابة على القبر
الكتابة على القبور أو ما يسمى "الشاهدة"، الإيبيتافépitaphe ، عرف بها اليونانيون القدامى، وكانت عبارة عن أبيات شعرية عادة ما تحمل اسم دفين الأرض من أبطال وسياسيين.
على قبر أشيل كُتبت كلمات من تأليفه هو نفسه: "هنا أشيل بن أوفوريون. ولد في أتيكا ومات بين جنائن جال.
* من موضوع طويل للكاتب