مفتاح الركام

2021-05-30

 

إبراهيم الزيدي*

منذ أن سقط الوطن في الغياب، وأنا أقرأ ما لديّ من نسخ الأحبة، والأصدقاء. في كل صفحة حقل ألغام من الذكريات.. براكين حب خامدة.. ألوان فقدت صلاحيتها.. وأحلام غير صالحة للتبني.

أحياناً أبكي، وأحياناً أكتب دموعي، وأنشرها، لعلهم يقرؤونها، أو يمسحون بها الغبش عن زجاج غيابهم. عشر سنوات ووكالات الأنباء تشيّع بلادي، ولم أستطع أن أقرأ على روحها الفاتحة، كل مرة أبسط راحتي يديّ الملوثتين بالحبر، وأتمتم: بسم الله الرحمن الرحيم، وأتفاءل برحمته، وأتوقف عندها، وأصمت.

أعرف أن التفاؤل يقع في المستقبل، وأنني من أمة تنتمي إلى الماضي، وتمجده، حتى في النشيد الوطني نسند آمالنا إلى ماضينا (فمنّا الوليد، ومنّا الرشيد، فلم لا نسود، ولم لا نشيد) وها أنا مثل حال الأمة، ليس لديّ سوى نسخ بالية من الذكريات.

أبحث عن قدمين بلا قلب، أعبر بهما الحدود. فهذا الوطن الذي تتناهبه الخرائط، أعيش معه قصة حب من طرف واحد، وقد أتعبتني.

في آخر زيارة للطبيب النفسي، نصحني أن أصرخ إذا انجرحت، فالجروح الصامتة ألمها مضاعف، فتساءلت عن جدوى الصراخ، وتذكرت كيف كانت الرقة بقضها وقضيضها تصرخ، ولم يتوقف القصف، وكيف كانت حقول القمح في الحسكة تصرخ، ولم تخمد النيران، وكيف أن ملايين الأمهات السوريات صرخن، ولم يتوقف الموت!

إن كان بورخس محقاً، وكل ما يحصل في العالم، يحصل كي ينتهي في كتاب.

أتمنى لو أعرف في أيّ فصل من فصول ذلك الكتاب نحن الآن؟ لأنني ببساطة أعتقد أننا استهلكنا صيغ تفضيل كلمة (سيئ) لم نستهلكها وحسب، بل استهلكنا دلالاتها أيضا! أحدهم كتب ذات يوم: سأعود في أقرب وطن ممكن. صورة جميلة، شعرية وشاعرية، إلا أنها غير صحيحة.

علاقتنا مع الوطن لا تحكمها المسافات الزمانية أو المكانية، يتحكم بنا شعورنا به.. لقد غادرت الرقة منذ زمن طويل، إلا أنها لم تغادرني! وصارت أبسط كلمة (شاوية) تنبش ذكرياتي، تفتح أبواب الغياب، تضعني على حافة الهاوية، وتفضح هشاشتي التي أتعبني إخفاؤها.

هذا الهذيان الذي أكتبه لم يعد حالة عارضة، يمكن لأيّ حدث أن يخرجني منه، إنه حياتي التي أعيشها، دونه أشعر بأنني لست أنا، لذلك لم أستطع أن أكون لبنانياً في بيروت، ولا شاميّاً في دمشق، أتعثر بالرقة أينما ذهبت. لدرجة لم أعد أعرف من منّا يسكن الآخر، هل أنا سكنت الرقة، أم الرقة سكنتني؟

منذ فترة أضعت مفتاح بيتنا في الرقة، بيتنا الذي تحول إلى ركام، ولم يعد لدينا منه سوى المفتاح، بحثت عنه ساعات طويلة، قلبت البيت الذي استأجرناه في اللاذقية رأساً على عقب وأنا أبحث عنه، أمام دهشة زوجتي وأولادي، الذين أدركوا أنني (خارج التغطية) فواربوا استغرابهم، وصاروا يبحثون عن المفتاح معي، ثلاثة أيام ونحن نبحث عن المفتاح! ثلاثة أيام من القلق والتوتر، تناولت خلالها الكثير من الأقراص المهدئة لأستطيع النوم. في اليوم الرابع وجدته ابنتي بين مفرشي الأريكة. فجاءتني به فرحة. تناولته منها، وبكيت.

 

  • كاتب سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي