"ذباب إلكتروني" يحتّم التغيير

2021-05-17

 

صبحي حديدي*

«قيادة الاحتجاجات في العصر الرقمي» كتاب بيلور أصلان أزغول، الأستاذة في كلية العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة برنيل، لندن؛ صدر بالإنكليزية العام الماضي ويختار النشاط الشبابي في مصر وسوريا خلال انتفاضات 2011 كميدان لأبحاث تتوخى التعمق في تكتيكات التنظيم والتعبئة لأنشطة الشباب في عصر استخدام الوسائل الرقمية والميديا عموماً. والعمل، المتميز في سويّة مقارباته ونطاقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، يتوسل الأنماط التي شهدت نجاح التكتيكات، والأنماط الأخرى التي خلقت المخاطر العالية المرتبطة بتسخير، أو ربما توريط، الحركات ذات الإسناد الرقمي.

والفصل التمهيدي في الكتاب يتناول مسائل النضال عبر الإنترنت في البلدان ذات المرجعيات الكفاحية الضعيفة، وطبائع القيادة في الحركات ذات الاعتماد على العدّة الرقمية، والنشاط غنيّ الموارد مقابل النشاط ضعيف الموارد. الفصل الثاني يرصد التشابهات والاختلافات بين مصر وسوريا، في مستويات البنية السياسية غير الممركَزة (سوريا) مقابل السلطة التنفيذية الممركَزة (مصر) والبنية السياسية من حيث «الأوتوريتارية المحدَّثة» عند بشار الأسد واقتصاد السوق عند حسني مبارك.

كذلك تناقش أقسام لاحقة علاقة المجتمع المدني بالصحافة، فتتوقف عند «ربيع دمشق» وإسلاميي مصر ومثقفيها العلمانيين، ومرجعيات الاحتجاج المختلفة (سوريا «مملكة الصمت» مصر موجة الاحتجاجات، التشابهات والاختلافات).

 

ما دام التعبير عن روح التغيير مستمراً «أونلاين» و«أوفلاين» على حدّ سواء، فإنّ افتضاح أنظمة القمع والفساد سوف يتعزز، والتغيير الاجتماعي سوف يصبح محتوماً أكثر.

وتكرس أزغول فصلاً خاصاً لمناقشة أنماط القيادة الرقمية في البلدين، مع تركيز على ما تسميه «القيادة الناعمة» لجهة التجربة والهوية الجمعية، والخطاب وزمن النشاط والموقع والنطاق، وطرائق «كسر الصمت» وردود أفعال النظامين في دمشق والقاهرة.

كذلك فإنّ ظواهر انقلاب حركات الاحتجاج الرقمية والسلمية إلى حركات مسلحة تحظى بفصل خاصّ، لا تغيب عنه مناقشة كيفيات التحوّل الرقمي إلى العمل الرقمي السرّي؛ وما انطوى عليه من استراتيجيات معارضة وأخرى موالية، على نطاق محلي أو إقليمي أو عالمي.

غير أنّ المهاد التاريخية لأبحاث أزغول، وانطلاقها من معطيات ما بعد 2011 تحديداً، لا تُلزمها بالعودة المفصلة إلى ما قبل الانتفاضة في البلدين، أو بالأحرى في سوريا ما بعد توريث بشار الأسد سنة 2000 على وجه التحديد. ذلك لأنّ نظام الوريث استأنف العادات القديمة لعهود الأسد الأب، في ميادين عبادة الفرد والشعارات التأليهية، وتظاهرات التأييد الحاشدة؛ ولعلّ الابتكار الأحدث في هذا المضمار كان المشهد المسرحي الذي شاع خلال ما سُمّي بـ»المظاهرات المليونية» ابتداءً من تلك التي جرت في آذار (مارس) 2005. وهذه استولدت «لازمة» لا غنى عنها من أجل تطريب المتظاهرين، وضمّت هذه النماذج على سبيل الأمثلة: الترنيمة الأزلية «بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!»؛ والأخرى، التي لا تخلو من دموية منفّرة: «يا بشار لا تهتم/ عندك شعب بيشرب دمّ»؛ والثالثة، التي سجّلت العودة الأوضح إلى عبادة الفرد: «الله! سوريا! بشار وبسّ!».

لكنّ الأسابيع العشرة الأولى من عمر الانتفاضة السورية شهدت اقتراناً مضطرداً بين ارتقاء ثقافة المقاومة الشعبية السلمية، وبين ارتقاء أساليب التظاهر وأنساق الاحتجاج؛ وصارت دينامية الحراك تتجلى بصفة خاصة في الهتافات والشعارات المرفوعة، وما تستولده هذه من خطاب وعي ذكيّ اللغة، ورفيع من حيث محمولاته السياسية. وبين أذكى اللافتات تلك التي كانت تقول: «أنت في المكان الخطأ، هنا درعا (أو بانياس، دوما، حمص، اللاذقية، دير الزور، القامشلي…) وليس الجولان»؛ أو أخرى تقول: «الرجاء استخدام الرصاص المطاطي، أسوة بالجيش الإسرائيلي»؛ وثالثة: «هذا هو الإصلاح/ طلقة لكلّ مواطن».

وبين أذكى الهتافات ما يشدّد على الوحدة الوطنية، مثل «واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد» أو يبرز الكرامة الوطنية: «الشعب السوري ما بينداس/ والسوري مرفوع الراس» و»من القامشلي لحوران/ الشعب السوري ما بينهان»؛ أو يدين النظام: «خاين يللي بيقتل شعبه».

كانت شبكات الإنترنت حاضرة في تلك الحراكات على اختلافها، وخلاصة أزغول هي التالية: صحيح أن الأنشطة الرقمية، وصعود وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع التنظيم والتعبئة والحشد، أسقطت الكثير من حواجز الخوف والرهبة والتحفظ في نفوس اعتادت الخشية واتقاء شرّ الأنظمة؛ لكنّ ذلك الإسقاط ظلّ يترافق مع غياب «المواطنة السياسية الفعالة» خاصة في سوريا، وظلّ في الآن ذاته يستولد خطوط التناقض بين السلمية والتسلح، وبين البرامج الديمقراطية والعلمانية والأخرى الإسلاموية والجهادية.

ولا يخفى، كذلك، أنّ الأنظمة لم تتنبه إلى خطورة الأنشطة الرقمية فعملت على تخريبها وتعطيلها، فحسب؛ بل أنشأت الجيوش السيبرية المضادة، أو ما سوف يُسمى «الذباب الإلكترونيّ» الذي تولى تنظيم هجمات مضادة هدفت إلى بلبلة الرأي العام تارة، أو تخويفه تارة أخرى، والسعي بالتالي إلى قطع خطوط التواصل بين المعارضين النشطاء والشارع الشعبي، بهدف تحييد «الأغلبية الصامتة» في كلّ حال.

ولم تكن مفارقة أنّ بعض «الصفحات الموالية» والكثير منها مرتبط بجيوش الأنظمة وذبابها، كانت النافذة الأولى لجسّ نبض الأنظمة في مستوى صراعات أجنحة السلطة ومراكز القرار؛ على غرار دور تلك الصفحات في كشف نزاع رامي مخلوف مع أسماء الأخرس (بشار الأسد في الواقع) أو ماهر الأسد/ الفرقة الرابعة مع سهيل الحسن/ الفرقة 25.

وليس من غير مؤشرات وجيهة أن أزغول تختم كتابها هكذا: ما دام التعبير عن روح التغيير مستمراً «أونلاين» و«أوفلاين» على حدّ سواء، فإنّ افتضاح أنظمة القمع والفساد سوف يتعزز، والتغيير الاجتماعي سوف يصبح محتوماً أكثر.

 

  • ناقد ومترجم سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي