عن عربة تجرها الكلاب: مقاربة أولية لبيئة الكاتب وترجمته

2021-04-18

رولان بارت - إدوارد سعيد - هاروكي موراكامي - محمود درويش
محمد المطرود*

لا أشك كعربي أبداً من أنّ كاتباً كماركيز قارب أجوائي، وخلق لديّ متخيّلاً، أقرأ من خلالهِ بيئة أمريكا اللاتينية بسحرها وقصص أهلها، ولا أجدُ المقدمة التي يوطئ بها كتبه، وتظهر توجهها لقارئ عربي، إلّا دعماً لمحاولة خلق توأمة بين بيئتين تلتقيان في أماكن كثيرة، وتتنافران في مواضع آخرى، لكن أياً يكن من أمرها ـ أقصد المقدمات ـ فهي نزيهةٌ وجسرٌ ومسوّقةٌ لغاية نبيلة.
ولعلّ الترجمة الناجحة على يدِ مترجمين ناجحين، لا يمكن عزلها عن الإبداع، ولا يمكن النظر إلى القائمين عليها إلا بوصفهم مبدعين، وترجماتهم نصوصا إبداعية موازية للنصّ الأصل، والتواطؤ الذي يتم الحديث عنه بين عالمين مختلفين، كلّ منهما يتنازل فيه عن بعض امتيازاته لصالح الآخر، فهو أمر لا يبقى أسير ذلك التواطؤ الحميد، ولا أسير مترجم جهبذٍ، يجيد اللغة وماورائياتها، وقد تكون الماورائية هذه/ الخلفية البيئية والنفسية للناصّ والنصّ الأصليين، هي التي أعطت مفاتيحها للناقلِ، بحيث يقرأ عربي، على سبيل المثال، «مئة عام من العزلة» بوصفها عملاً يختّص بالبيئة العربية، بقدر اختصاصه ببيئته الأصل كولومبيا. وهنا أستطيع القول بأنّ ليس كل ما ينقل من مكان إلى آخر، يكون رهنَ قدرة الناقل لتبيئته، إنّما هناك كتابةٌ مشرقةٌ وواضحة بمحليتها، وتبقى رحلتها وفق خطّ سيرٍ بين مدينتين، بينهما الكثير من الجسور اللغوية، من حيث الصياغات والعوالم السحرية، بما يجعل المسافة صفراً، بين عالمين متواطئين ليس في الترجمة والنقل وحسب، إنّما في الحكايةِ والتقاء الشخصيات بمنطوقها وأفعالها، وكذلك في الصورة النمطية، وارتدادات الوعي الجمعي لمجتمعين تجاه حدث أو شخصية إشكالية، أو أسئلة تثيرها الكتابة عموماً بكونيتها والتزامها بقضية الإنسان، باعتباره نقطة مركز، وباعتبار الشعوب تتكامل حضارياً من حيث التاريخ والفلكلور والعادات وطرائق المعيشة باختلافات في الشكل لا في الجوهر والعمق، ولهذا فالكتابة ميّالة إلى التواصل لا إلى التصادم.

التجربة القلقة

أدعمُ وفق قناعة تامة القول الغليظ الذي قاله علي بن الجهم مادحاً المتوكل، منطلقاً من أرضِ بدوٍ، لهم علاقتهم بكلابهم من حيث وفائها، وتيوسهم وأكباشهم في المناطحة، لغةٌ ضاربة في عمقِ القائل، وتكاد تكون عمادة سلوكه اليومي، انطلاقاً من مشاهداتهُ وحاجاتهُ، تلك التي لم تؤسس على عجلٍ، بل تماشياً مع سلطة فرضتها المورّثات والفرضية البيولوجية في تشكّل السلالات.
وربّما بالقدر نفسه، في ما لو غيبت ذهاب بعض القراءات إلى التشكيك بابن الجهم، واتهامه بالسخرية من الممدوح، كونه سبق وقال قولاً رقيقاً في الخليفة الذي سبقهُ، يتمارى مع قولهُ في متوكل اليوم، بعد أن أغدقَ عليه الأخير بمال ودار فارهة على ضفاف دجلة. لقد صار ممكناً تفهم موقف الخليفة الذي استأنس القول بردّه إلى البيئتين، إحداها شخصيته وهويته، والثانية شخصيته واكتسابهُ وتطويره لأداته سواء ـ التطويرـ جاء لاكتساب حظوة أو مال أو سمعة شعرية، في حيّز تكثر فيه المنافسة.
خلاصة الفكرة هنا، لو عدَدتُ أنّ بوناً شاسعاً بين أطناب بيت الشعر وجلافة الطبيعة الصحراوية، والرقّة التي توفرها الطبيعة المائية، سأقول بوجود مكانين لكلّ منهما لغته لو جاز التعبير، وطرائق تعبيره، وإذا المتوكل لم يحتج مترجماً أو ناقلاً، فهو من المؤكد احتاج قراءة أخرى محايثة، وتلبّس محليّة الشاعر، مستبطناً اختلاف وجماليات قولهِ. ولعلّ لابدّ دائماً من قراءتين، فالهندي بيدبا الذي ضنّ بكتابه «كليلة ودمنة» ليكون هندياً خالصاً بما يوفر من حكمة وعظة، فإن ابن المقفع المعرّب أراده حكمة متداولة، من إيمانٍ بمشاعية المعرفة، فصار يقرأ اسم ابن المقفع على الغلاف أكثر مما يقرأ اسم كاتبه، بل إنّ هناك من ينظر إلى الاسم» بيدبا» كما لو هو شخصية مغفلة من الكتاب الذي صيغ على ألسنة الحيوانات، وتساوقاً مع نبل نقل المعرفة، فابن المقفع لم ينفّك من القول بما معناه بوجود (طبعتين)، واحدة للسخفاء وأخرى للحكماء.
إذن من هم السخفاء، ومن هم الحكماء حسب المترجم، وهل يمكن لي اليوم في كل عمل أتلقاه من خارج وسطي البيئوي، أن أردهُ إلى هذه القسمة العجائبية، متصوّراً طبقتين من التلقي؟ أم سأكتفي بأهمية التأويل، وإجازته ليكون مخرجاً نحو قراءات متعددة للنص الواحد، وما ينغلق على قارئ، ينفتح على سواه، وما ينغلق على قارئ في لحظة تشظٍ، ينفتح عليه في لحظة تنوير ذاتية. في كتابه «الزمن والسرد» يذهب رائد فلسفة التأويل بول ريكور مذهباً سيميولوجياً في القراءة، ويمنح للقارئ أهمية استراتيجية، تلك التي تنطلق من النّاص نحو المتلقي، وتتصوره» ذاتاً قارئة، أو بوصفه جمهوراً متلقياً» وهو ما يمكن أن يُستشف كذلك من عنوانه الآخر «الذات عينها كآخر» وحين لهذا الاهتمام، والتفكير في الآخر تأثير بالدرجة الأولى، فالكاتب هنا يثير أسئلتهُ، وفي الوقت نفسه يضع صورة بانورامية للأجوبة من طرف معادلته، شريكه في صناعة مفهوم التلقي، وبالتالي يمكن لمراقب المشهد، في ما لو وضع له مرتسماً، أن يلمس تياراً دافئاً، يتنقّل من مكان إلى آخر بسهولة، تيارا يشبه حركة النيترون في أنبوب زجاجي جيئة وذهاباً.

كأن شيفرة ما، لغزّها كاتب ما، ليضع القارئ في تنقلات عديدة، بين الواضح الذي يعرفه أو يتوقعه، والصدمة والأسئلة المثارة كجزء أصيل من فعالية الكتابة أساساً، وما راكمهُ وعاشه كسلوك في أرضه/ بيئته، وأرض أخرى قرّبها من نفسه كمكتشف، أو كعابر للواضح إلى المختلفِ.

كتّاب عابرو أوطان/ قرّاء يتعرّفون كتّابهم باللغة:

أتفهّم كإنسان يعيش في منطقة أدنى تكنولوجياً، وككاتب يقع في منطقة التلقيّ، ابتداء من اجترار نظرية الآخر» الأدبية» إلى الشعور بوجود معلّم وتلميذ، ذلك أن حركة الترجمة وتعرّف المنجز الجديد واللافت، لا يتم من الأدنى إلى الأعلى، إنما من الأعلى إلى الأدنى، ما يغيّب العدالة، ويكرّس الاستعلاء، ولهذا لو سألت متوسط ثقافة عربي، يمكنه أن يسرد لك قائمة طويلة بمنتجين أدبيين وثقافيين، بعضهم يكون شبه مغمور في محلهِ/ بلده، وعلى العكس تماماً في سؤالك أحدا ـ غير عربي ـ الذي تمشي معه هالته، بما يخدم نرجسيته كأحد عابر للحدود والأوطان، فستكون إجاباته لا تخرجُ عن أدونيس كمفكر حداثي، ومحمود درويش شعرياً، وإدوارد سعيد في الاستشراق، ونجيب محفوظ كحائز جائزة نوبل، وهنا فالقارئ في المنطقة «الدنيا» أكثر دأبا في البحث عن اكتشاف الآخر، وهو ما ينطبق على الكتّاب والمترجمين، انطلاقاً من صفةِ «المعلم» التي يلبسونها على الوافد، والذي يتقاطع معهم في نقاط كثيرة، ويتمايز عنهم في نقطة أنّهم يجدونَ بيئة غير بيئتهم، وقارئاً غير قارئهم المعتاد، وهذا ما يجعل كاتباً كـ(أنا) على سبيل المثال، قلقاً ومتفكّراً في تقنية الكتابة، بينما كاتب من أمريكا اللاتينية ساهمت أنا في تسويقه ترجمة وإشارة واهتماماً، أن يكون مطمئناً، كما لو الرقيب ـ سوى الأمني ـ الذي يشغلني، لا يشغلهُ.
يقترح بارت معاملة القارئ كشخصية من شخصيات النّص، بما أن القراءات لامنتهية، وهذا سينعكسُ على مستويين، في ما لو سُلّم بهذا الاقتراح، فصاحب «موت المؤلف» يُحيي المتلقي دائماً، ويجعل لهُ مصيراً في إقطاعيات شخصية، يطالب بموتها، وفي مستوى آخر فالفكرة في كتابه «هدير اللغة» تنتصر للقارئ العائش في جوانية الكاتب والنّص معاً، ووفق هذا الوجود» الاستراتيجي» ينبني فعل الكتابة، ويتحرر نحو تشكيل فضائه الكوني من محليته، ربما ـ محليته ـ المتطرّفة باقتناص التفاصيل والتشكيلات الاجتماعية للحكي، بحيث يصبح اللاواقعي واقعيا، كما في الواقعية السحرية، وكما في الكلب الراكض على حافة البحر لجنكيز إيتماتوف، حين يصير التيه شخصية أو مفصلاً حدثويا، يلتقي فيه الكثيرون/ الذين ينطلقون من البحر، ويحلمون بطائر الفينيق الذي ينهض من رماده وينقذهم.

عربة تجرها الكلاب وشعراء يتسلقون شجرة الياسمين:

مثل آخرين لا أنتسبُ إلى مكان فيض ماءٍ وخضرة، كالذي تنعّم به ابن الجهم على ضفاف دجلة، ولولا قراءاتي المتأخرة لكنتُ أقرب إلى غلظِ منطقه ومنطوقه، فقد عرفت البرتقال كثمرة شهية، وليس من السهل تحصّلها، قبل أن أكتب عن رائحتها متأثراً بالتشببِ الذي ذهب إلى الرائحة لا إليها كمأكل، كذلك لاستخدامي «الأبنوس» بما استخدمه محمود درويش، ولمْ أتعرّف هذه الشجرة/ الشجيرة، إلى يومنا هذا، وعليه لا أستغرب كتّاباً وشعراء في مدينة صغيرة، جلّ أهلها يكتبون الشعر، ومن لا يكتبه يعمل في» الميكانيك» وقسم لا بأس به مجنون عاقل، أو عاقل مجنون، تأثروا بسليم بركات وجاك بريفير، وحين كتبوا عن الشُرفات، لم يكن في المدينة ثمة شرفة، فالمدينة شبه القرية تتوزع وفق توزيع أفقي لتوفر المساحة.
صديقان شاعران، أحدهما كتب عن القرنفل، لا لأنه يعرفه، بل رآه مقردة شعرية خالصة، لورودها في كتابات، شكّلت ذائقته ووعيه للكتابة والقراءة حسبه، ولهذا عندما دلّه أحدهم إلى شجيرة قرنفل، انزعج كثيراً، متأسفاً على الكتابات التي تغزّل فيها بقامة هذا الشجيرة، ظّنا أنّها شجرة، القصة ذاتها فالصديق الشاعر من دولة خليجية في بيئة أشبه ببيئتي، وبيئة ابن الجهم، كتب بما معناه أنه يتسلق شجرة الياسمين، في حين هي شجيرة رقيقة شبه متطفلة على شجرة قريبة منها أو جدار. والأمر انطبق على كثر، يكتبون عن عربة تجرها الكلاب، بدل الكتابة عن عربة تجرها البغال أو الكدش، فهذا أقرب من التغريب الذي يمارسه هذا الكاتب بحق قارئه الذي ينتمي إلى بيئته ومحليته، والذي في الوقت ذاته، هو كشريك للمؤلف حسب رولان بارت، يكتشف ويقارب صورة في غير بيئته بصورة تخصّه، وعليه فالكاتب المحلي الذي يجر قارئه إلى بيئة الآخر، هو يعطّل شرط المكاشفة، على عكس الكاتب الآخر الذي يخلص لمحليته، ويفتّح مساحة كانت غامضة أو ملتبّسة، أو بكرا لشريكهِ في معادلة التلقي.

نقطة نظام:

أستطيع القول إنّ اختراق المسكوت عنه، أو المغيّب ما زال مستمراً، وتلقي الجديد من بيئات أخرى مستمرٌ، ولعلّ التعرّف على كُتاب جدد كانوا مجهولين بالنسبة لنا إلى وقت قريب، يؤكد على اللحاق بالذي يختلف عنا، ويشبهنا في الحين ذاته، ولاغرابة إذا قرأنا الدوستوبيا عند هاروكي موراكامي في روايته «كافكا على الشاطئ» وثلاثية زافون أو أخذنا روح الاكتشاف إلى الرواية اليابانية، تلك التي تفرض حالها في بلد تخاله من شدة ولعه بالتقنية روبوتاً، غير أنني أرى في مقاربات شفوية بوجود أعمال لا تحاكي الآخر بقدر ما تحاكي واقعها وتنطلق منه، ولا أبالغ أنّ أعمالاً عربية على سبيل المثال يمكن أن نجد فيها من الواقعية السحرية أو الدوستوبيا، بما يبزّ أعمالاً تلقيناها وطوّبنا باسمها المصطلح. إذا نحن أحوج إلى قراءة ذواتنا الكاتبة أولاً، ويمكن للتأثر أو التناص مع نصوص منجزة، أن يتمَ بشكل صحي، بحيث نكتب عن عربة تجرها البغال، ولا نتسلق شجيرة الياسمين، وبهذا تكون القراءات المؤسسة شديدة الفعالية في خلق تقنية كتابة جديدة لدينا، لكن بروحنا وواقعنا وأدواتنا التي نعرفها عن كثب، وهو ما سيساعد في تأمين بيئة تلقٍ محلية، وقد تساعد هذه المحلية في الوصول إلى قارئ آخر، إذا لم أجزم بأنّها ستفعل.

*شاعر وناقد سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي