مجتمع ذكوري يواجه نهايته في العام 2257

"سريان الفوضى" فيلم يروي مغامرة العبور إلى المستقبل بعد فناء الأرض

2021-04-12

فتاة فضائية وشاب قروي في رحلة إنقاذ محفوفة بالمخاطرطاهر علوان*


ماذا لو كانت أفكارنا مكشوفة للجميع؟ وماذا لو كان ما يدور في رؤوسنا يستطيع الآخرون سماعه أو إدراكه مباشرة دون الكثير من الجهد؟ وماذا لو حمل كل منا سحابة صغيرة مستقرة فوق رأسه هي كل حواراته مع نفسه التي بإمكان الآخرين أن يلتقطوها؟ هذا الخيال المديد يقع في العام 2257، وهو الذي يحمله فيلم “سريان الفوضى” للمخرج دوغ ليمان.

ذلك الخيال المديد والرحب سوف يذهب بنا بعيدا إلى تلك القرية التي تكون قد عادت إلى بدايات التجمعات البشرية، وتذكّرك بأفلام الويستيرن في الزي وفي التنقل على الخيل وفي اعتماد الزراعة موردا للعيش.

تلك البقعة المكانية المعزولة عن العالم هي ملجأ فئة بشرية صغيرة إلى كوكب مجهول يبعد بمسافات شاسعة عن سطح الأرض، وهو عرضة لغزوات فضائية. ومع تتابع المشاهد تلحظ غياب المرأة بشكل كامل، وإن هو إلاّ كوكب ذكوري بالمطلق.

في موازاة ذلك تكون مركبة فضائية تحلق في السماء تتعرّض إلى عطل، فتنزل على سطح الكوكب وهي تحترق فلا تنجو منها إلاّ فتاة، فكيف يكون الحال مع نزول فتاة في مجتمع ذكوري؟

يبرع المخرج منذ البداية في بناء الإحساس بعالمين متباينين، ذلك العالم القروي الذي يذكّرك بأفلام الويستيرن في مقابل العالم المتطوّر الذي تمثله الفضائية فيولا (الممثلة ديزي ريدلي) التي تشاء الصدف أن يشاهدها الشاب تود (الممثل توم هولاند) ولا يتمكن من إخفاء ضوضائه التي من خلالها سوف يلتقط الجميع معلومة وجود فضائية تحطمت مركبتها في وسط الغابة، وهو ما سوف يبلغه للعمدة برنتيس (الممثل مادس ميكلسين)، وتبدأ عندها حملة بحث عن الفتاة لا هوادة فيها ويتهم تود ووالديه بالتبني بالتستر على الفتاة.

هذا التحوّل في الدراما هو الذي سوف يصعّد الصراع ما بين تود والعمدة وأتباعه في مطاردة مصنوعة ببراعة في وسط الغابات، مع انطلاق فيولا بدراجتها النارية.

عندما كتبت الناقدة باري إيفانز عن الفيلم أنه غني بطبقاته السردية المتعددة ووجهات نظره المتنوعة، كانت على حق، فهذا الفيلم ينطوي على العديد من الطبقات والرؤى المختلفة، لاسيما وأنه ينتقل بنا بالتدريج من الحيز المكاني الساكن الممثل في القرية وفق نمط الويستيرن إلى مطاردة الفتاة الفضائية وصولا إلى المواجهة الحاسمة التي تقع على أرض مستعمرة فيربانش.

في تلك المستعمرة سوف تسود حياة أخرى مختلفة، فهي مستعمرة تقودها امرأة وهي تكوين اجتماعي متناسق وطبيعي قوامه الرجال والنساء والأطفال، وهي التي سوف تحتضن فصلا جديدا من فصول تلك الدراما.

التمكن من إدارة الأحداث والصراع من مكان إلى آخر وفي كل مرحلة من التحوّلات يمنح الفيلم إحساسا جماليا مختلفا تتجلى فيه روعة الطبيعة وتنوّعها وكذلك تنشأ تلك المحبة الصافية بين فيولا وتود، وحيث تصبح مجرد قبلة عنصر ضجيج في غيمة تود.

وفضلا عن أن الهدف من ملاحقة العمدة لتود هو انتزاع فيولا منه باعتبارها تنتمي إلى مستعمرة متطورة سوف تغزوهم لا محالة، لهذا يريدها ورقة ابتزاز، ولهذا تتطوّر المواجهة إلى سلسلة من مشاهد الأكشن السريعة، خاصة عند النزول إلى البحيرة وجرف المياه لزورق تود وفيولا، وهما يتصارعان مع القس في مشاهد متميزة.

ولعل ميزة الخيال العلمي الباذخة في هذا الفيلم في كونه فيلم ذا ثيمة مستقبلية وما بعد الديستوبيا الأرضية، هي كونه يمزج أزمنة بأخرى وبيئات وأماكن مع بعضها. ولكن وفي النتيجة سوف تنتصر تلك العلاقة بين فيولا وتود القائمة على فكرة التفوّق والنجاح بأي شكل كان.

هنا ثمة مشاهد تشويق إضافية ومشاهد قطع أنفاس، خاصة مع سعي تود لإعادة الحياة لجهاز اتصال متطوّر من خلال ربط الهوائي في أعلى حطام سفينة فضائية، وذلك ما يتيح لفيولا أن تتصل بمركبات فضائية أخرى طلبا للعون، بينما يخوض تود عراكا شرسا مع العمدة.

تم توظيف مستويات التصور والتنويع في حجم اللقطات وإغناء المشاهد بالمزيد من المفاجآت، وجميعها في إطار مغامرة تبدو في غاية البساطة من خلال أداء تود وفيولا والانتقاء الواعي لباقي الشخصيات، وخاصة والد تود بالتبني وشخصية العمدة الشرير وقبلهم جميعا شخصيتا فيولا وتود المتميزتان.

ولنلاحظ هنا اكتناز هذا الفيلم بالعديد من مقومات الفيلم الناجح والجدير بالمشاهدة، فالمخرج لم يكتف بقصة الخيال العلمي وغزو المركبة الفضائية لكوكب آخر، ممّا هو معتاد في العديد من أفلام الخيال العلمي، بل إنه مضى إلى ما هو أبعد، فقدّم نسقا واقعيا من خلال مجتمع القرية الذكوري ثم مجتمع القرية الثاني الخليط ثم إنتهاءً إلى المواجهة الحاسمة مع العمدة.

خلال ذلك كان هناك نمو منطقي للأحداث مضافا إلى الاتزان في تعبير الشخصيات عن نفسها، وخاصة فيولا التي بدت مقتصدة في حوارها، ثم لتتفاعل مع شخصية تود وتنسجم معه دون أن تتخلى عن شخصيتها وباعها وكيف نشأت في مستعمرة فضائية وكيف تطورت إلى رائدة فضاء مرموقة.


*كاتب عراقي مقيم في لندن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي