بودلير ومحاكمة «أزهار الشر»

2021-04-04

بودليرصبحي حديدي*

تشرع فرنسا، اعتباراً من 9 نيسان (أبريل) الجاري، في تنظيم سلسلة احتفالات وأنشطة وإطلاق إصدارات وإقامة ندوات مختلفة، أحتفاء بالذكرى المئوية الثانية لولادة شاعرها الكبير شارل بودلير (1821 – 1846)؛ الذي، وإنْ عاش عمراً قصيراً بالقياس إلى مجايليه من الأدباء، فقد كان أحد كبار صانعي الحداثة الأدبية الفرنسية بصفة عامة؛ وأحد كبار روّاد قصيدة النثر الفرنسية، التي دشنت مسارات تجديد وتشجيع لأمثال أرتور رامبو وستيفان ملارميه؛ فضلاً عن ترجمة شعر إدغار ألن بو، وتوةظيفه في سيرورة التحديث. ومن اللافت أنّ أبرز الأنشطة، والتي قد تكون بين الأكثر تواضعاً في الآن ذاته، هو احتفال بلدة ألنسون، غرب باريس في منطقة النورماندي (قرابة 52 ألف نسمة)؛ ليس لأنّ بودلير ولد فيها، إذْ أنه رأى النور في أحد أحياء العاصمة، بل لأنها تولت في سنة 1857 نشر مجموعة بودلير الرجيمة «أزهار الشر» على يد الناشر المغمور والمغامر أوغست بوليه – مالاسيس.

ليس هنا المقام المناسب لمناقشة إرث بودلير الشعري ومكانته وموضوعاته وأساليبه، فهذه وسواها تقتضي مساحة أوسع بالطبع؛ لكن هذا العمود سوف يكتفي بإشارة أولى وجيزة تماماً تستعيد ذكرى المئوية الثانية، كي تتوقف أيضاً عند جانب آخر شديد الأهمية على صلة بحياة الشاعر وبشعره، هو حال الحداثة الفرنسية مع الرقابة السياسية والأخلاقية والدينية الفرنسية أواسط القرن التاسع عشر. ففي 5 تموز (يوليو) 1857 نشرت صحيفة «لو فيغارو» مقالة بتوقيع الصحافي غوستاف بوردان يتهم فيها بودلير و»أزهار الشر» بانتهاك الأخلاق العامة والأخلاق الدينية؛ مما دفع إدارة الأمن العام (وزارة الداخلية في تلك الحقبة) إلى الادعاء على الشاعر. وفي 20 آب (أغسطس) رافع المدعي العام أرنست بينار ضدّ الكتاب أمام المحكمة، وكان قبلها قد رافع أيضاً ضد غوستاف فلوبير وروايته «مدام بوفاري».

المحاكمة انتهت إلى إسقاط تهمة انتهاك الأخلاق الدينية، وإدانة بودلير وناشريه بالتهمة الأولى، وتغريمه مبلغ 300 فرنك، بالإضافة إلى حذف ستّ قصائد من المجموعة؛ هي «الجزيرة» «النساء الرجيمات» «إلى المنتشية للغاية» «الحليّ» «و»مصاصة الدماء». ولسوف يسارع فكتور هيغو، أبرز الأدباء ممثلي التنوير ومعارضة نظام نابليون الثالث، إلى التضامن مع بودلير، فيكتب إليه: «أزهار الشرّ الخاصة بك تتألق وتضيء مثل نجوم» وسيضيف أنّ هذه المجموعة جلبت «رعشة جديدة» إلى الأدب. تتمة الحكاية أنّ محكمة النقض أعادت النظر في القضية وخلصت، ولكن في سنة 1949، إلى رفع الحظر عن القصائد المحذوفة؛ وفي سنة 2013 عقدت محكمة الاستئناف جلسة خاصة، رمزية وقضائية في آن معاً، تولى خلالها المحامي السويسري مارك بونان مهمة الدفاع عن بودلير وديوانه.
وقد يكون حذف القصائد بمثابة الوجه الشنيع للرقابة، غير أنّ الكثير من القراءات، وفي عدادها هذه السطور، تساجل بأنّ الوجه الآخر الجدلي للرقابة ذاتها هو أنها حثّت على جملة من دوافع تطوير الموضوعات والأساليب والأشكال؛ وكانت، ليس من دون مفارقة، غنيّ عن القول، وراء الصياغات الحداثية الختامية التي اتخذها شعر بودلير. كذلك كانت محاكمة فلوبير قد قادته إلى خيارات أسلوبية حاسمة في اللغة أوّلاً، وفي طرائق السرد عبر الأصوات غير المباشرة تالياً، كما لم تكن بعيدة عن دفعه إلى التوغل أعمق فأعمق في أغوار النفس البشرية عموماً. وجه ثالث لا يصحّ إغفاله، وتناوله عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو، هو الموقع الاجتماعي والسياسي الذي أخذ الكاتب يشغله تدريجياً؛ سواء من زاوية التأثير العريض في الذائقة والجمهور والرأي العام، أو من زاوية الانضواء في صفّ السلطات وممارسة ما يشبه الرقابة الذاتية التي تكرّس حاجات النظام القائم في نهاية المطاف.

وقد لا يكون من الجائز التوقف عند مئوية بودلير الثانية من دون الإشارة إلى ترجماته في اللغة العربية، وهذه يمكن أن تبدأ من إبراهيم ناجي في سنة 1954، وتمرّ بأمثال حنا الطيار وبشير السباعي ومصطفى السحرتي وآدم فتحي ومحمد أحمد حمد، ولا تنتهي عند الشاعر المصري رفعت سلام. وفي تقديمه للأعمال الكاملة يتحث سلام عن تنظير بودلير لمفهوم الحداثة في مقالته «رسام الحياة الحديثة» حيث يستخدم بودلير مصطلح الحداثة لأول مرّة في الكتابات النقدية، ويشير إلى ما يميز الفنان الحديث: «هكذا يمضي، يجري، يبحث. فعمّ يبحث؟ بالتأكيد، هذا الرجل، كما وصفتُه، هذا المنعزل الموهوب خيالاً نشطاً، الرحّال دائماً عبر صحراء البشر العظيمة، إلى غاية أكثر سموّاً من غاية متسكع خالص، غاية أكثر عمومية، غاية غير المتعة العابرة للمناسبة. إنه يبحث عن ذلك الشيء الذي سنسمح لأنفسنا بتسميته الحداثة؛ لأنه لا تتوفر كلمة أفضل للتعبير عن الفكرة الحالية. وهو ما يعني ــ بالنسبة له ــ أن يستخلص من الحالة، الشعري من التاريخي، وأن يستمد الأبدي من الانتقالي».
وبالطبع، لن تمرّ الذكرى المئوية الثانية للشاعر الرجيم دون أن نقرأ لأحفاد «الفيغارو» وغوسـتاف بوردان مقالات تتساءل عن جدوى إعادة طباعة أعمال بـــودلير، ليس في فرنسا نابليون الثالث بل في فرنسا هذه الأيام؛ حين ينحدر التنظير إلى أمثال ألان فنكلكروت وبرنار – هنري ليفي وإريك زيمور، ومفاهيم مثل «الإسلامو – يساروية»!


*كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي