"أشتي" أعيش !!
2020-07-01
د. بتول السيد مصطفى
د. بتول السيد مصطفى

قراءة تاريخية متعمقة عن "اليمن السعيد" أو كما كانت تُعرف بـ "العربية السعيدة"، تؤشر إلى أن هذا البلد ومنذ زمن لم يكن يستقر سعيداً كما يليق بشعبه، الوضع المعيشي والاقتصادي متأزم غالباً، فنسبة الفقر في تصاعد مستمر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الوضع الاجتماعي المحكوم بالطبقية والتعدد الفئوي (سادة هاشميين، قضاة، قبائل، وفئات أخرى أدنى مرتبة). والوضع السياسي لا يشهد استقراراً كما يجب، فالقراءة التاريخية للحالة السياسية لليمن تؤكد حرفياً مقولة "التاريخ يُعيد نفسه"، مع اختلاف في أدوات وأطراف وشخوص الصراع، منذ عهد الإمامة وما قبلها وما بعدها وحتى اليوم، وكذلك مع اختلاف المواقف والرؤى المحلية والدولية حولها، بلحاظ حضور أذرع للتدخل الخارجي في الشأن/المشهد الداخلي، وهم يمثلون لاعبين دائمين على مر مراحل تاريخية مفصلية ومهمة، وإن كان البعض منهم على شاكلة "أصدقاء أعداء"، حيث لطالما اتسمت العلاقات بين اليمن ودول فاعلة في ساحتها بالتذبذب نظراً لرهنها بمصالح آنية/ضيقة.
ولعل أهم المراحل في تاريخ اليمن حديثاً تتمثل في تأثرها بدايةً بموجة "الربيع العربي"، وما سُمي بالثورات وما نتج عنها من تداعيات، وللشأن اليمني هنا خصوصية ثابتة في الصراع، حتى إطلاق المملكة العربية السعودية عملية "عاصفة الحزم" في 26 مارس/آذار 2015 بذرائع شتى أبرزها دعم شرعية الرئاسة بعد مقتل علي عبدالله صالح على أيدي جماعة أنصار الله "الحوثيين"، والتي غدت الخصم الأبرز لما عُرف لاحقاً بالتحالف، الذي يتهمها بالعمالة إلى إيران، في قبالة نفيها. وما تبع ذلك من عملية أخرى "إعادة الأمل" والتي أُعلن عنها في 21 أبريل/نيسان 2015، غير أن الأمل لم يعد لليمن أرضاً وشعباً حتى اللحظة، وهذا مرده إلى أسباب متفرقة خارجية وداخلية، منها تعنت بعض أطراف الصراع وإغفال "الواقعية السياسية"، وبالتالي عدم القبول بأي "تنازلات" أو مقترحات ومبادرات تفضي إلى حل سياسي سلمي وسط ضعف أممي جلي، إضافة إلى تشظي وانقسام التيارات والقوى السياسية، ناهيك عن النزعة الطائفية المُستجدة في الواقع اليمني، وما ترتب عليها من تأثيرات على شتى الأصعدة، أبرزها ضرب وحدة الموقف، وبروز "الأنا" لدى بعض الفاعلين على نحو أكبر من "نحن"، وما أسفرت عنه من حالات "ارتزاق" و"عمالة" خفية أو ظاهرة.
ولا يكاد يخفى استمرار تداعيات التدخل العسكري رغم المفاوضات السرية والأخرى المُعلنة، ورغم الوعود والهُدَن التي تُطلق ما بين فينة وأخرى لوقف إطلاق النار، ولعل آخرها تلك التي تزامنت مع الأزمة الصحية العالمية إثر انتشار فيروس "كورونا" أوائل أبريل/نيسان 2020، حيث في اجتماع الأزمات فتكٌ شرس بالبلاد والعباد، ورغم ذلك لم يتغير من الأمر شيئاً حتى أَلِفَ الشعب الحرب والفقر والمرض، علماً بأن "كورونا" في اليمن تُنافسه أوبئة أخرى لطالما حصدت أرواحاً من دون ضجيج كالكوليرا والملاريا والديفتريا وغيرها (الكثير من الحالات المُصابة بالفيروس المستجد مؤخراً صارت تتعافى ذاتياً، أو من دون علاج طبي نظراً لاعتياد الأجساد اليمنية على المواجهة والمقاومة، ما يُقوي جهاز المناعة ويهزم المرض، علماً بأن القطاع الصحي الرسمي أساساً هزيل).
أما نسبة الفقر، فقد بلغت 75 بالمائة مقارنة بـ 47 بالمائة في العام 2014 بحسب بيانات خاصة بالأمم المتحدة (أكتوبر/تشرين الأول 2019)، والتي تؤكد أيضاً بأنه "في حال استمر القتال حتى عام 2022، فستُصنف اليمن كأفقر بلد في العالم"، و"فيما لو استمر حتى عام 2030، سيعيش 78 بالمائة من اليمنيين في فقر مدقع، وسيعاني 95 بالمائة من سوء التغذية"، وذلك فيما تشير إحصاءات أخرى محلية إلى أن نسبة الفقر تقارب الـ 80 بالمائة أو تتجاوزها قليلاً، هذا فضلاً عن الخسائر البشرية. وعليه، فإن مآلات الصراع السياسي المستمر في اليمن حتى اليوم تشير فقط إلى أجراس تحذير لا آذان تسمعها، ونداءات إنقاذ لا أحد يتلقفها على نحو جدي وحاسم لإنهاء حالة الصراع/الحرب التي تدور رحاها منذ ما يتجاوز الخمسة أعوام.
تلك المقدمة لا تعدو كونها باباً لأفكار متضاربة قديمة جديدة، فتحته تغريدة مواطن يمني على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، مضمونها الآتي كما ورد في حسابه @aralward"أشتي أجرب أعيش خارج هذه البلاد، أشتي أنام ومش حاسس داخلي أنو كلها كم يوم وبتطلع أزمة جديدة أو قصف أو حرب، أشتي أمشي في شارع أصور، أشتي أسبح، أسوق بسرعة، ألاكم، أشرب شاي في أماكن حلوة، أحضر حفلات موسيقية، معارض فنية، أدرس وأتعلم أكثر، أشتي أحب أكثر #أشتي_أعيش". وللتوضيح، فإن "أشتي" كلمة باللهجة اليمنية تعني أريد.
وقد لقيت تلك التغريدة ما لقيته من تفاعل جُملة مغردين، انقسما إلى فريقين، أحدهما اتفق مع المضمون أملاً في معيشة ومستقبل أفضل، وحياة أكثر أمناً واستقراراً، مُعتبرين مغادرة اليمن اليوم أو الهجرة منها "طوق نجاة" ووسيلة هرب من واقع مؤلم ومُحبط يغذيه صراعٌ مستمر بين الحياة والموت. أما الفريق الآخر فيؤكد رغم "الحرمان"، إلا أنه لا راحة في غير الوطن، وإن بعدت يُعيدك الشوق، فلا سعادة مادية أرقى من سعادة الروح. ولعله من الجدير بالإشارة هنا إلى أن الكثير ممن قصدوا اليمن وأغلبهم "رحالة"، عرباً كانوا أو أجانب وبعضهم زارها وسط الظروف الحالية العصيبة يتأثرون بسحرها، لدرجة اتفاق البعض وعلى نحو غريب أن في أرضها عموماً وما تحويه من معالم تاريخية وحضارية "شفاءً للروح"! فضلاً عن نقلهم صورة جميلة عن البلد بخلاف النمطية السائدة أو التي يُراد طمسها، حتى شُكروا عليها من أهلها، إذ ربما رؤوا في ذلك "مواساة" تُبلسم جراحاً وتجبر خواطر، لا لشيء سوى لأنهم قد تفاجؤوا أخيراً بمن ينصفهم وبلدهم في عالم وإعلام ظلمهم وخذلهم، ولا يزال!
ربِ أنعم على هذه البلدة الطيبة - كما وصفتها في مُحكم كتابك – وأهلها الطيبين الأنقياء أمناً وأماناً، سعادة وهناءً، صحة وعافية، عاجلاً غير آجل، إنك على كل شيء قدير.

 

*(باحثة إعلامية/البحرين)



مقالات أخرى للكاتب

  • باجمال .. وداعاً
  • بيروووووووووت
  • الشهادات والمهارات





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي