"كورونا": أنت "قاتل"!
2020-06-19
د. بتول السيد مصطفى
د. بتول السيد مصطفى

أنت مُصاب بمرض فيروس "كورونا" .. إذاً: أنت "قاتل" أو "مشروع قاتل"!
تلك التهمة القاسية والمُرة التي تخفيها الأوساط المجتمعية عنا صراحة اليوم، بيدَ أنها حاضرة نفسياً وذهنياً لدى الكثيرين، فأن تُصاب بهذا الفيروس سريع العدوى والانتشار لا يعني في الغالب أنك ضحية، بل مجرماً، والتعاطي معك سيكون على هذا الأساس (وصمة عار)، أنت الآن قد تقتل أقرب الناس إليك، خاصة من كبار السن - باعتبارهم الفئة الأولى التي يفتك بها المرض - فتبقى مُذنباً ما حييت، انعزل وحيداً واكفِ شرك .. لا حل ولا علاج آخر، ولو مُت قد يُدفن سرك/مرضك معك جهلاً أو عمداً، باعتباره مصدر حرج! .. (الكثير من المصابين صرحوا بأنهم لا يخافون على أنفسهم بقدر ما يخشون من نقل العدوى إلى أسرهم وأقاربهم والمحيطين بهم).
قد لا يجرؤ البعض على الإقرار بذلك الانطباع، فمنابع الخلل عديدة، ولكن كل المؤشرات تُوحي به، فما الذي يعنيه أن تثير الهلع بـ "عِطاس" أو "سُعال"، أو أن تُحجر، أو أن تُخفي مرضك، أو أن تُحاول تغافل أعراضه أو ... أو ... ؟! وفي المقابل ما الذي يعنيه انتشار خطاب الكراهية ضد المصابين وذويهم وما انطوى عليه من طائفية فجة وعنصرية محضة، سواء على أساس الأعراق والجنسيات أو الأجناس من جهة، أو الأديان والمذاهب من جهة أخرى؟! (مثالاً: لصق التهم بشيعة بعض دول الخليج لاستيرادهم المرض في بداية الأزمة من إيران حيث كانوا، وبالعمالة الوافدة أو الأجنبية نظراً لما تبين بعدها من وضوح طغيانها على التركيبة السكانية، لاسيما الآسيويون من الهنود، مع مطالبات حرفية بطردهم وترحيلهم إلى بلدانهم).
لم تعد وسائط الوعي المجتمعي فاعلة، بما فيها وسائل الإعلام المتفرقة تقليدية كانت أو رقمية باعتبار نظامها جزءٌ من النسق الاجتماعي للمجتمع، وهذا أحد جوانب القصور، فضلاً عن مدى جدوى الإعلام الصحي، الرسمي خصوصاً، وذلك عند الأخذ في الاعتبار زيادة اعتماد الجمهور على وسائل الإعلام في أوقات الأزمات كمصدر مهم لاستقاء المعلومات التي تشبع مختلف احتياجاته ودوافعه، وما يترتب على التعرض إليها من تأثيرات معرفية، وجدانية "عاطفية"، وسلوكية (نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام تُعد من أبرز النظريات الإعلامية التي تُساعد في فهم تأثيرات الإعلام واستخداماته). وهذا ما يطرح تساؤلات عدة بشأن ما إذا كان الإعلام قد ساهم في التعريف بالمرض أو بث الشائعات وإثارة اللغط والغموض حوله عوضاً عن تبديدهما (انتشار فيديوهات ومقاطع صوتية لمنتمين إلى القطاع الصحي حول العالم تنطوي على معلومات متضاربة ومضللة، فضلاً عن البيانات الإحصائية غير الدقيقة، والدراسات العلمية والتصريحات المتناقضة).
وما إذا كان الإعلام قد ساهم في تعزيز الشعور الجمعي تجاهه عبر إثارة مشاعر الخوف والقلق والتشاؤم باعتباره مصدر خطر، أو بث روح الأمل والتفاؤل ورفع الروح المعنوية نظراً إلى إمكانية التشافي منه، وما إذا كان الإعلام يقوم بدور تنويري يحث الجمهور من خلاله على إتباع إجراءات وقائية وسلوكيات معينة تحميه، والأهم أن يفرض لديه قناعة مُوازية في قبالة ذلك كله، فالأقوال تُكذبها الأفعال في واقع الحال إن من ناحية النظرة المجتمعية وما يرتبط بها من صور ذهنية مؤثرة على القرارات والاتجاهات، أو التوعية الصحية (الاقتصاد هزم الصحة في عدة دول: تراجع الدخل، كساد وتضرر مختلف القطاعات، وزيادة معدلات البطالة).
واللافت في هذا الصدد أن العديد من الدراسات الإعلامية العربية التي أُجريت مؤخراً لرصد دور وسائل الإعلام في معالجة أزمة "كورونا" تُعطي غالباً نتائج إيجابية مُتحيزة لقطاع الإعلام الرسمي أو الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومات، الأمر الذي يؤكد ضرورة إعداد دراسات في المستقبل تقوم على أسس واقعية، حيادية، وموضوعية.
وعلى ذات الصعيد، يجدر بالذكر أنه في قبالة تلك الصورة المُظلمة والظالمة والقاتمة، ثمة صورة عكسية ومُضادة لها تماماً، فمريض "الكورونا" ضحية كذبة كونية ومؤامرة دولية وتجار أمراض على غرار تجار الأزمات ممن استرزقوا بإذكاء الوهم والتهويل، ليعِش حياته الطبيعية فلكلٍ أجل مسمى، ولا داعٍ للهلع أو الخوف والقلق فلا قاتل غيرهم، فهم من يُضعف الجهاز المناعي في إطار عوامل نفسية في المقام الأول، ولا أهمية للعلاج الطبي، عليك بالعسل والحبة السوداء وما إلى ذلك من أدوية شعبية وعشبية مُتاحة في كل منزل، أبسطها الماء والملح!
فللمستوى الثقافي والوضع المعيشي المُعقد دورٌ في المزيد من التعقيد للوضع الصحي أيضاً، ولعل هذا ما يُفسر التعاطي مع المرض لاسيما في بداية ظهوره كمادة للتندر والسخرية ونسج الطِرف. والمؤسف أن بين الفريقين الأول والثاني لا توجد صورة رمادية إلا فيما ندر، فالصورة المثالية في التعاطي مع هذه الأزمة الصحية إن جاز التعبير وإن أصدقنا الوصف ليست سوى ضرباً من خيال! فأجندات السياسة والاقتصاد أيهما كان لها الأولوية باتت من يحكم ويتحكم بمناحي الحياة اليوم من منطلق مصالح ضيقة خاصة لا وطنية عامة، وتتلاقى في ذلك دول عربية وأجنبية على السواء (إخفاق في إدارة الأزمة: التداعيات تهزم آليات وخطط المواجهة أحياناً، وسلسلة التدابير الاحترازية قد لا تصمد طويلاً).
أخيراً .. يبقى مثلث الحل لأزمة مفاجئة وغير مسبوقة كهذه: سُلطات مؤمنة بالمواطن أولاً، إعلام مسؤول ورصين، ومواطن واعٍ ومثقف.


*(باحثة إعلامية/البحرين)



مقالات أخرى للكاتب

  • باجمال .. وداعاً
  • بيروووووووووت
  • الشهادات والمهارات






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي