المُحَرّم في الحرَم الجامعيّ الأمريكيّ
2025-05-31
سنان أنطون
سنان أنطون

تحرص الجامعات الأمريكية على إدارة تفاصيل حفلات التخرّج السنوية و«إخراج» طقوسها بشكل يرضي الأطراف المعنية، بما يتناسب مع تأثيرها، الحالي والمستقبلي، مادياً ومعنوياً. وتشمل هذه الأطراف بالطبع الطلاب، الذين ستنضم نخبة منهم إلى عدّاد الخريجين المتبرعين لوقف الجامعة في المستقبل، وذويهم الذين تحملوا نفقات الدراسة في الجامعات الخاصة، وحضروا ليحتفلوا ويفتخروا. كما أنها تشمل أيضاً أعضاء مجالس الأمناء، ومعظم هؤلاء يكونون من ذوي وذوات النفوذ السياسي والاقتصادي، ومن رجال ونساء الأعمال وأصحاب الرساميل، الذين تتقاطع وتتداخل مصالحهم وتوجهاتهم مع كبرى الشركات والمؤسسات.
وتعيد الطقوس، عموماً، إنتاج ومسْرحة وترسيخ السردية والصورة المؤسساتية التي تمزج الكثير من المُتَخيّل والمؤمْثَل ببعض الواقعي الملموس، فيمكن أن يتوقع المرء التفاصيل والثيمات التي تتكرر كل سنة: المهمّة السامية للمؤسسات التعليمية ودورها في الرقيّ، حديث عن فضاء حرية التفكير النقدي وطرح الأسئلة والانفتاح الفكري (تعرّضت هذه في السنتين الأخيرتين إلى زلازل وتصدّعات وشروخ عميقة)، وتعداد إنجازات الخريجين الحاليين والسابقين، الذين يعودون لإلقاء كلمات في مناسبات كهذه أو ليكرّموا، بالإضافة إلى حضور شخصيات تُُمنح شهادات فخرية. ولا مفر من الملل والرتابة عموماً في هذا الطقس السنوي، لكن أحياناً يبرع أحدهم أو إحداهن في إلقاء خطاب متميّز ومختلف، يخرج عن المألوف، ويفلت من شراك النسيان، ليستقرّ في الذاكرة ويثير ضجّة أو جدلاً، أو قد يغامر بالخروج عن البرنامج المعد بحذر. فإدارات الجامعات تطلب سلفاً من كل الذين اختيروا وانتخبوا لإلقاء كلمات أن يسلّموا نص كلماتهم مسبقاً.
وليس سراً أن الرقابة المؤسساتية تضاعفت بعد حرب الإبادة الصهيونية ضد غزّة، وظهور الحراك الطلابي ومخيمات التضامن في الجامعات الأمريكية، وما تبع ذلك من قمع وتضييق وتقييد للحد الأدنى من حرية التعبير والتظاهر داخل الحرم الجامعي. وما زاد من حذر ورقابة الإدارات، أن الطلاب استغلوا وبذكاء وشجاعة حفلات التخرّج العام الماضي للتنديد بالإبادة وبتواطؤ الولايات المتحدة وتخاذل وتواطؤ إدارات الجامعات، التي مارست كل أشكال القمع، واستعانت بالشرطة وفصلت زملاءهم ومنعتهم من الاشتراك في حفلات التخرّج. فرفعوا أعلام فلسطين ولافتات تنادي بحريتها في حفلات التخرج، وأثناء اعتلائهم المسرح لاستلام شهاداتهم، وصبغوا إياديهم باللون الأحمر ليرمزوا إلى الدم المسفوك. ومنهم من رفض أن يصافح العمداء، وهم يسلمونهم شهاداتهم. وهتفوا بحرية فلسطين ونددوا بوحشية الإبادة. وهكذا أصدرت الإدارات تعليمات محددة أكثر صرامة هذه السنة بعدم ارتداء أي وشاح، أو وضع أية شارة أو علامة والاكتفاء بالعباءة والقبعة الأكاديمية، وإلا فلن يسمح للطلاب بالمشاركة. لكن العديد من الطلاب أخفوا الكوفيات وأعلام فلسطين والرايات والشعارات تحت ملابسهم وشهروها ورفعوها بعد اعتلائهم المسرح.
انتخب الطلاب في كلية غالاتن في جامعة نيويورك، وهي الكلية التي يدرّس فيها كاتب هذه السطور، انتخبوا لوغان روزوس ليلقي كلمة الطلاب. وروزوس طالب متفوق وممثل واعد ظهر في مسلسل تلفزيوني شهير، وهو عضو في فرقة الكلية المسرحية. وقد تخصّص في النقد الثقافي والاقتصاد السياسي. وقف لوغان، وهو أسود ومتحول جنسياً، أمام جمع غفير في مسرح بيكون الشهير ومما قاله في كلمته:

طالب شجاع لم يتردد في قول ما يجب أن يقال ولم يخف من تبعات موقفه.
طالب يكشف تخاذل الجامعات الأمريكية وتواطؤها مع الإبادة وتهافت وخواء شعارات الحرية الأكاديمية

«إن التزامي الأخلاقي والسياسي يدعوني، لأن أذكر أن الشيء الوحيد الذي يجب قوله الآن أمام جمع بهذا الحجم هو، الاعتراف بالفظائع التي تُقْتَرف الآن في فلسطين. لا يمكنني أن أتحدث عن مواقفي السياسية الشخصية فحسب، بل سأتحدث بالنيابة عن ذوي الضمائر، وكل الذين يشعرون بظلم الإبادة.. الولايات المتحدة تدعم الإبادة المستمرة حالياً سياسياً وعسكرياً، وتدفع كلفتها من أموال ضرائبنا ونشاهدها حية على هواتفنا منذ 18 شهراً». قوبلت هذه الكلمات بتصفيق حار وهتافات من معظم الحضور، ومن عدد من الأساتذة على المسرح. ويبدو أن إدارة الجامعة كانت تراقب حفل التخرّج الذي يبث على موقع الكلية. وهي متحاملة بشكل خاص ضد هذه الكلية، لأن طلابها وأساتذتها كانوا في طليعة المظاهرات، ولأن أساتذة الجامعة صوتوا بحجب الثقة عن رئيسة الجامعة العام الماضي، بعد قرارها استدعاء الشرطة للقبض على الطلاب والأساتذة في مخيم التضامن. فقد صدر بيان من الناطق الرسمي باسم الجامعة بعد وقت قصير من الكلمة، ندّد فيه «قيام طالب أثناء حفل التخرج باستغلال دوره كمتحدث للتعبير عن آرائه السياسية الشخصية أحادية الجانب»، واتهم الطالب بالكذب لأنه لم يلتزم بنص الكلمة التي كان قد سلمها. وأعلن أن «الجامعة ستحجب شهادته، ريثما نستكمل الإجراءات العقابية». ولم ينس الناطق الرسمي أن يعتذر «لأن الحضور سمعوا هذا التعليق» وأن الطالب «سرق اللحظة منهم» وأساء استخدام الشرف الذي ناله باختياره لإلقاء الكلمة.
ندّدت المنظمات اليمينية والصهيونية بالطالب، وأثنت على قرار الجامعة بمعاقبته. وتصاعدت على الجانب الآخر أصوات الدعم من أكثر من أربعمئة من خريجي الجامعة، ومن عدد من الأساتذة الذين وقعوا عرائض ورسائل، تدعم الطالب وتثني على شجاعته وتدعو جامعة نيويورك إلى التراجع عن قرار حجب الشهادة. إن المرء ليفخر بهذا الطالب الشجاع الذي لا يتردد في قول ما يجب أن يقال ولا يخاف من تبعات موقفه. طالب يكشف تخاذل الجامعات الأمريكية وتواطؤها مع الإبادة وتهافت وخواء شعارات الحرية الأكاديمية.


*كاتب عراقي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - القدس العربي

 



مقالات أخرى للكاتب

  • رحيل أفقر رئيس… زارع الأقحوان والطماطم
  • هل كان البابا شيوعياً
  • عن خيانات الأكاديميين







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي