صدام الأدوار والأقدار ورحمة "التعددية المصغرة"  
2024-01-03
رفيق خوري
رفيق خوري

 

كما على المسرح كذلك في الواقع: أدوار وأقدار. على المسرح، من سوفوكل إلى شكسبير وبيرانديللو وموليير وبيكيت، تبرز في المسرحيات عناوين أو مضامين معبرة، أبطال في مواجهة أقدار. شخصيات تبحث عن مؤلف. أدوار تبحث عن أشخاص. وأبطال بلا بطولة. وفي الواقع أدوار تبحث عن أبطال. أدوار تبحث عن دول. ودول تبحث عن أدوار.

والبحث عن أدوار هنا ليس مقتصراً على الدول الكبرى التي لديها أدوار تفرضها الجغرافيا السياسية على الحكام، إلى جانب الأدوار التي يطمح إليها الحكام لتوظيف فائض القوة. فما أكثر القوى الإقليمية التي تلعب أدواراً تفرض نفسها وأدواراً بالوكالة عن قوى عظمى.

حتى الدول الصغيرة، فإن ضعفها يجعلها مسرحاً لأدوار، وقوة حاكمها تدفعه إلى لعب أدوار يتصور أنها تخدمه ولو أضرت ببلده، لكن البارز والمهم والجديد نسبياً هو ظاهرة "التعددية المصغرة". دول صغيرة مساحة ومنفتحة على الجميع تقود جهوداً متعددة الأطراف تنتج وساطات ناجحة حتى بين الكبار.

قدر الدول الكبرى هو صدام الأدوار والمصالح. أما الاتفاقات والتفاهمات التي تحدث بينها فإنها مجرد وسيلة لتفادي الصدام العنيف وخدمة المصالح المشتركة. هكذا كانت اللعبة بين أميركا والاتحاد السوفياتي في زمن الحرب الباردة ثم الوفاق الدولي واتفاقات الحد من التسلح النووي، إدارة نظام عالمي ثنائي القطب بلا صدام مباشر، ولكن مع الحروب غير المباشرة في ما تسمى "المناطق الرمادية" خارج المناطق التي تعتبرها واشنطن وموسكو مصلحة حيوية ممنوع اللعب فيها.

وهكذا هي اللعبة حالياً بين أميركا والصين الصاعدة التي صارت قوة عظمى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، إذ التنافس والتعاون والخصومة. كذلك بين أوروبا والصين. وهذا ما يدور في حرب غير مباشرة بين روسيا و"الناتو" حيث أطلق الرئيس فلاديمير بوتين حرباً ضد أوكرانيا من أجل أن يضمن لبلاده استعادة دور الاتحاد السوفياتي، ولكن في نظام متعدد الأقطاب.

وليس ما تفعله إيران في المنطقة سوى تكبير دور من أجل مشروع إقليمي تخدمه ميليشيات أسستها طهران في عدد من الدول. كذلك الأمر بالنسبة إلى تركيا التي تلعب عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا، وأمنياً وسياسياً في منطقة البحر الأسود والقوقاز، وتتوسط بين روسيا وأوكرانيا، وتمسك بالحلف الأطلسي في يد وبروسيا في الأخرى، من أجل دور كبير في أكثر من إقليم. وهذا ما فعلته إسرائيل عبر الحروب ثم معاهدات السلام و"اتفاقات أبراهام" بمساعدة أميركا.

وماذا عن دور سوريا في لبنان، ودور العراق في محيطه، ودور مصر في أفريقيا والعالم العربي، والدور العجيب الغريب الذي حاول العقيد معمر القذافي أن تلعبه ليبيا في العالم العربي وأفريقيا وفي أي بلد يشهد صراعاً؟ الدور المهم حالياً هو للسعودية في العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم كله في إطار التنمية المستدامة والاعتدال.

اللافت مجدداً هو ظاهرة "التعددية المصغرة". ومن ثمارها دور سلطنة عمان في وساطات متعددة بين أميركا وإيران، وإيران والسعودية. دور النرويج في "اتفاق أوسلو". دور قطر في "مؤتمر الدوحة" لتسوية أزمة لبنانية. دور توغو في إنهاء الحرب الأهلية في سيراليون. وأدوار كثيرة أخرى أسهمت في تسوية أمور كان من الصعب على الدول الكبرى النجاح في تسويتها.

وإذا كان صدام الأدوار قدر الدول العالمية الكبرى والدول الإقليمية الكبرى، فإن خيار الدول الصغيرة ضمن "التعددية المصغرة" هو رعاية التسويات. أدوار تقود إلى تفادي أقدار.

 

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • لعنة المباراة الثانية بين ترمب وبايدن
  • لعبة توريط الأردن بعد توريط لبنان  
  • صراع غير متكافئ على روح لبنان





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي