كيسنجر والشرق الأوسط.. لعبة القدر
2023-12-10
إميل أمين
إميل أمين

هل كان الشرق الأوسط ذات مرّة في أوائل سبعينات القرن المنصرم، على موعد مع ثعلب السياسة الأميركيّة، هنري كيسنجر، ذاك الذي رحل عن عالمنا قبل بضعة أيّام، وهل كان ذلك الموعد منعطفًا لتغيير شكل المنطقة، وبداية حقبة جديدة من السلام بعد الحروب؟

يبدو كيسنجر قولاً واحدًا أنّه كان رجل الأقدار لهذه المنطقة المثيرة والخطيرة من العالم، منطقة الشرق الأوسط، ولعل الغريب والعجيب في ذات الوقت، كونه في الأصل كان بعيدًا إلى أبعد حَدٍّ ومَدّ من فهم هذه المنطقة، والتي لم يتعاطَ معها بالمرة، سِيّما أنّ رسالته العلميّة كانت عن الزعيم البروسي الشهير "أوتو فون بسمارك"، والكثير من كتاباته تعَمَّقتْ حول السياسيّ ورجل الدولة النمساويّ "كليمنس مترنيخ"، فيما بدا وكأنّه مُنْبَتُّ الصلة بالشرق الأوسط والعالمَيْن العربيّ والإسلامي، دفعةً واحدة.

تبدأ مفاعيل القدر مع كيسنجر، قبل أن تندلع حرب السادس من أكتوبر عام 1973، فقد تمّ تعيينه وزيرًا للخارجيّة في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون الثانية، بعدما شغل منصب مستشار الأمن القوميّ لسنوات.

كيف يتصَرّف كيسنجر، والمطلوب منه أن يتَوَجّه إلى مصر وإسرائيل في محاولةٍ لإخماد نيران المعركة، وقبل أن تتطوَّرَ إلى مواجهة كبرى بين السوفيت والأميركيّين، على الأرض، فقد كانت هواجس حرب السويس 1956 باقية بعد في الأذهان؟مؤكَّدا أنّ هناك مَن أنقذ كيسنجر بالفعل، ولم يكن سوى شاب باحث لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، سيكون له مستقبل واعد فيما بعدُ، كان اسمه "ريتشارد هاس"، من مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، والذي أقنع كيسنجر بأنّ الشرق الأوسط كيف التعامل معه من خلال نظريّة "الخيمة والسوق"، وهي باختصار تفيد بأنّ سَيّد القبيلة الجالس في الخيمة هو المسؤول عن إدارة شؤون البلاد والعباد، وأنه لا مؤسَّسات تشارعه أو تنازعه، وطريقة التعامل الفضلى معه، تتمثّل في الجدل اللفظيّ والفكريّ ليصل المرء إلى أفضل نتيجة.

فهم كيسنجر الدرس سريعًا، ولعلّ هذا ما مَكَّنه من إقامة علاقة قويّة جدًّا مع الرئيس المصريّ الراحل أنور السادات، والذي دَرَجَ على وصفه بـ"صديقي كيسنجر".

أمّا عن علاقاته مع الجانب الإسرائيليّ، فحَدِّثْ عنها ولا حرج، ويكفي القول إنّه الرجل الذي عمل بأسرع ما يمكن على استنقاذ إسرائيل من الزلزال المصريّ الذي هَزّ أساساته، عَبْر ما عُرِف بالجسر العسكريّ الجويّ.

بعض التساؤلات الأكثر إثارة في سيرة هذا الرجل، تُوَضِّح لنا خطورة "من يوسوس في أذُن الملك"، ذلك أنه في أحيان كثيرة "أخطر من الملك"، والتعبير يعود إلى حقبةالمَلَكيّة الفرنسيّة والكاردينال ريشيليو، رجل السياسة الداخليّة الأشهر والأمهر في فرنسا.

هل كان كيسنجر وراء قيام حرب أكتوبر؟

بعض المحللين يُرْجِعون إليه بالفعل نشوب المعركة، استنادًا لما قاله ذات مَرّة للرئيس السادات من أنّه لكي يتحَرَّكَ ملفُّ الصراع المصريّ الإسرائيلِيّ سلما فلا بدَّ من عمل حربيٍّ يقنع الجانب الآخر بأنَّ البقاء على حد السيف إلى الأبد لن يفيد إسرائيل، ومن هنا كانت هذه المعركة.

غير أنّ هذا الطرح تحوم من حوله الشكوك، سِيَّما أنَّ كيسنجر هو من تحَدَّثَ قبل سنوات نافيًا أن تكون حرب أكتوبر، مجرد حرب تمثيليّة بين الجانبَيْن، كما تقول أصوات كثيرة، إذ أقَرَّ بأنّها كانت حربًا حقيقيّة من الجانبَيْن المصريّ والسوريّ، والثقل الأكبر بالطبع كان لمصر التي هَزَّتْ العالم من جَرَّاء عبور المانع المائيّ الخطير، خطّ بارليف.

في الحديث عينه بدا واضحًا أنّ الرجل يمتلك من قدرات المفاوض السياسي البارع الكثير جدًّا، فقد صَرَّح بأنّه نَصَحَ الرئيس السادات بألّا يتجاهل الدور الأميركيّ، وألّا يمضي قُدُمًا في تطوير القتال أو توسيع رقعته، وكانت نصيحته للزعيم المصريّ الراحل:"انتبهوا حربًا لأنكم سوف تحتاجون إلينا سِلْمًا".

نجح كيسنجر تاليًا في عملية فَضّ الاشتباك بين الجيشَيْن المصريّ والإسرائيليّ، عبر ما عُرِف بالجَولات المَكُّوكِيّة، واستطاع بالفعل تهدئة الأجواء، ما قاد لفتح قناة السويس وإعادة الملاحة المصريّة، وتاليًا كانت هناك خطوات ماورائيّة عِدّة، شارك كيسنجر في كواليسها، أدَّتْ إلى زيارة السادات للقدس والتوَصُّل لاحقًا لاتفاقية كامب ديفيد عام 1979، حتّى وإن كان كيسنجر خارج تشكيل إدارة الرئيس كارتر، لكنه كان وسيظل لعقود طوال العقل المُحَرِّك لما يجري في الكثير من البقاع والأصقاع حول العالم عامّةً وفي الشرق الأوسط خاصّةً.

في كتابه الأخير "سيد اللعبة.. هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط"، يخبرنا الدبلوماسيّ الأميركيّ "مارتن إنديك" مؤلّف هذا العمل المهمّ، أن الشرق الأوسط هو من أطلق طاقات كيسنجر الدبلوماسية بشكل هائب، ذلك أنه أثناء أزمة حرب أكتوبر 1973، تمكن كيسنجر من المراوغة بمهارة فائقة لتحقيق أربعة أهداف طموحة ومتناقضة إلى حَدٍّ ما في آنٍ واحد، ضمان انتصار إسرائيل كحليفٍ لأميركا على القُوّات المصريّة والسوريّة المدعومة من الاتحاد السوفيتيّ، ومنع ووقوع هزيمة فادحة للجيش المصريّ حتّى يتمَكَّن زعيمه من الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل تعيد له جزءًا من الأرض، وإثبات أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة هي وحدها القادرة على تحقيق نتائج للعرب على طاولة المفاوضات، وأخيرًا الحفاظ على "الانفراجة في العلاقات مع موسكو"، رغم أنّه كان يعمل على تقويض النفوذ السوفيتيّ في منطقة الشرق الأوسط.

كانت هذه البراعة- وإن كانت مؤقَّتة في بعض الأحيان- هي سبب بزوغ نجم دبلوماسية كيسنجر على مسرح الشرق الأوسط، وقد كانت تحَرُّكاته وجهوده مثيرة للإعجاب من جانب الكثيرين، وتنُمّ عن رؤية وإستراتيجية وحنكة فائقة لكبير الدبلوماسِيّين الأميركِيّين، مستعينًا في ذلك بمعرفة بالتاريخ ومهاراته الحدسيّة البديهيّة، وفهمه الدقيق لتوازن القوى المُعَقَّدة في منطقة الشرق الأوسط واستعداده لتحَمُّل المخاطر والارتجال، فضلاً عن قدرته الميكافيلّيّة على نشر أدوات النفوذ المُستمَدَّة من القوة الأميركيّة الهائلة للتعامل بحنكة ودهاء مع زعماء تلك المنطقة المضطربة من أجل تحقيق السلام الشرق أوسطيّ.

ما يُميِّز كيسنجر حقًّا، هو ولاؤه لأميركا طوال الوقت، من خارج أي تشكيل حكوميّ أو رسميّ، وقد عرف الجميع في البيت الأبيض قَدْرَه، وكان رجلهم في الكواليس خاصّة مع الصين.

نصح كيسنجر باراك أوباما في زمن ما عرف بالربيع العربي، بألّا يترك الساحة الشرق أوسطيّة لأعداء واشنطن والمُتحَفِّزين ملء مربعات النفوذ التي ستفقدها واشنطن من جَرَّاء المكائد والدسائس الخلفيَّة، لكن من الظاهر جدًّا أن أوباما لم يستمع إليه.

من يصنع أقدار الأمم والشعوب؟ الأحداث أم الرجال؟

حكمًا الرجال وقد كان كيسنجر، مهما اختلفنا من حوله، أحد هؤلاء الذي ترك بصمة واضحة على السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط بنوع خاصّ.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-العربية نت-



مقالات أخرى للكاتب

  • الشرق الأوسط والانفلاش النووي
  • هل حقًّا أميركا قائدة العالم؟
  • الذكاء الاصطناعي.. آلة الزيف الانتخابي






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي