للحظة وجيزة بعد ظهر الثامن والعشرين من نوفمبر، وقع حدثٌ نادر. فقد شهدت كنيسة جامعة إيموري بولاية جورجيا الأميركية إقامة حفل وداع للسيدة الأولى السابقة روزاليند كارتر شاركت فيه شخصيات من كلا الحزبين (الديمقراطي والجمهوري). ومن بين الحضور كان هناك زوجها الوفي الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة جيمي كارتر البالغ من العمر 99 عاماً. كما حضر مراسم الوداع الرئيسان بايدن وكلينتون وكل السيدات الأُول اللاتي على قيد الحياة، ومنهن هيلاري كلينتون ولورا بوش وميشيل أوباما وميلانيا ترامب وجيل بايدن. وشارك الجميع في حفل تأبين بسيط للسيدة كارتر. حدثٌ أسبغ على البلاد سمواً وأملاً معاً. وعلى خلفية أهوال الحروب المستمرة والأجواء السياسية المشحونة والمسمومة، كان هذا اليوم يوماً مشهوداً.
خدمت السيدة كارتر بلدَها خلال واحدة من أكثر الأوقات اضطراباً في التاريخ الأميركي الحديث. فقد انتُخب زوجُها رئيساً لأميركا في سنة 1976 على خلفية إرث حرب فيتنام القاتم، واستشراء التضخم بسبب أزمة النفط عقب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، والنهاية المشينة لرئاسة ريتشارد نيكسون الذي اضطر للاستقالة في 1974 عقب فضيحة ووترغيت. وكان يُنظر إلى انتصار كارتر على أنه محاولة لتطهير النظام السياسي من الفساد والأكاذيب والإخفاقات التي طبعت سنوات نيكسون وفورد وتقديم بداية جديدة للبلاد. وكانت رئاسة كارتر تأمل في إعادة بناء المؤسسات التي خضعت لاختبارٍ قاسٍ خلال سنوات «ووترغيت».
الخبر السار هو أن الدستور ومؤسسات الحكومة، بما في ذلك المحاكم والكونجرس، صمدت أمام الاختبار وظهرت مرةً أخرى بحيوية متجددة. كما أُقر تشريعٌ جديدٌ لتجنب السلوك غير القانوني الذي انخرط فيه نيكسون من أجل الالتفاف والتحايل على الدستور.
أما الخبر السيئ حينها فهو أنه على الرغم من شخصيته المبتهجة وابتسامته العريضة وسمعته النظيفة، فإن كارتر لم يتمكن من التغلب على تحديين كبيرين تسببت فيهما الثورة الإيرانية عام 1979. الأول كان أزمة نفط أخرى وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة. أما الثاني فكان أزمة الرهائن حينما احتجز آية الله الخميني 66 أميركياً من سفارة بلادهم في طهران لمدة عامين. وكان الفشل في إطلاق سراح الرهائن وضعف الاقتصاد سببين رئيسين سمحا لرونالد ريغان بالوصول إلى السلطة سنة 1981 بأغلبية ساحقة. لينضم بذلك كارتر إلى نادي الرؤساء الذين حكموا أميركا لولاية واحدة فقط. لكن لا هو ولا زوجته ذهبا إلى التقاعد، إذ سرعان ما استعادا شعبيتَهما خلال السنوات التي أعقبت الهزيمة في الانتخابات، وتميزت سنوات ما بعد الرئاسة بإنجازات إنسانية كبيرة نالا عليها تقديراً واحتراماً كبيرين عبر العالَم. وضمن هذه المساعي النبيلة، عملت روزاليند كارتر جنباً إلى جنب مع زوجها، فأسّسا «مركز كارتر» الذي عمل مع ائتلاف من المؤسسات الأخرى غير الربحية وحقق الكثير في سبيل القضاء على مرض «دودة غينيا» في أنحاء العالم. كما شارك المركز في مراقبة الانتخابات في 115 دولة من أجل تعزيز الديمقراطية. وكانا نشيطين جداً في النهوض بخدمات الصحة العقلية في العديد من البلدان والمشاركة في بناء المنازل مع منظمة «مأوى من أجل الإنسانية».
الزوجان كارتر، اللذان اشتهرا بنمط حياة يميل إلى الزهد، لم ينخرطا أبداً في مشاريع من أجل الاغتناء. فقد عاشا في منزل صغير في بلدة بلينز، بولاية جورجيا، يسكنانه منذ عام 1961. كانا يشكّلان فريقاً في غاية الانسجام والتناغم منذ زواجهما قبل 77 عاماً. وإذا كان الأميركيون يتذكّرونهما لعملهما الإنساني، فإنه لا ينبغي لأحد أن ينسى أن صلابتهما لم تكن بسبب معتقداتهما الدينية القوية فحسب. ذلك أن جيمي كارتر كان مهندساً نووياً وكان على مسار مهني يفضي إلى قيادته غواصة نووية، لكن والده مات فجأة، فاستقال من البحرية الأميركية وعاد إلى بلدته ليدير مزرعةَ الفول السوداني التي تملكها العائلة، قبل أن يترشح للبيت الأبيض في النهاية. وخلاصة القول هي أن آل كارتر كانا زوجين اتسمت حياتُهما بالقيم والأخلاق.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-الاتحاد-