روسيا وتركيا وفخ إدلب
2020-03-04
فيتالي نعومكين
فيتالي نعومكين

من الصعب للغاية الكتابة عن إدلب في هذه الأيام، ذلك لأن تطور الوضع «على الأرض» يمكن أن يسبق أي أفكار، وربما إلى حين نشر هذه المقالة ستجري أحداث لم يكن بالإمكان التنبؤ بها حتى في أشجع التوقعات.
الوضع متوتر للغاية لدرجة يمكن فيها أن يضع المنطقة على شفا حرب شاملة. وكما هو معروف، فإنَّ الصدامات التي أثارتها هجمات المسلحين، بين القوات التركية الموجودة على الأراضي السورية والجيش السوري، الذي وضعت أمامه مهمة إعادة إدلب إلى سيطرة دمشق، أدت إلى سقوط ضحايا. لقد تمكن الآلاف من الإرهابيين من الذين تمترسوا في إدلب من نصب فخ وقعت فيه قوى عالمية وإقليمية كانت قد انضمت إلى الصراع من أجل إطاحة «نظام بشار الأسد».
أصبحت أنقرة اليوم، كما يستنتج كثير من المحللين الأتراك، وعلى سبيل المثال متين غورشان، في حالة حرب تقليدية مع دمشق، وإن كانت غير معلنة. في حال تصاعد المواجهة السورية - التركية، كما أخبرني أحد المحللين الغربيين، قد يضطر العديد من الحكام العرب إلى اتخاذ خيار صعب: إما لصالح دمشق والتضامن العربي مع ضحية التدخل الأجنبي، أو لصالح أنقرة والمعارضة السورية المسلحة التي تدعمها.
على هذه الخلفية، ساءت العلاقات الروسية - التركية واشتدت لهجة الجدل بين السياسيين (بمن فيهم الرئيس نفسه) والخبراء الأتراك من ناحية؛ والسياسيين والخبراء الروس من ناحية أخرى. تؤكد روسيا أن قواتها الجوية الفضائية لا تحمي سلامة أراضي سوريا وسيادتها فحسب؛ بل وتحارب الإرهاب أيضاً، معتمدة على تعاون شركائها الذين تعهدوا بالتزاماتهم في هذا الإطار، لكن تركيا، التي يستمر النظر إليها اليوم على أنها شريك، لا تفي بالتزاماتها بموجب اتفاقيات سوتشي.
إردوغان اقترح على بوتين ترك تركيا «وجهاً لوجه» مع السلطات السورية، وعدم التدخل في المواجهة بين أنقرة ودمشق. في هذا الصدد، أشار ديمتري نوفيكوف، النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما (النواب) الروسي، رداً على هذا الاقتراح، إلى أن السلطات التركية لا تملك أي صلاحيات لتحديد مصير سوريا، وإنما تدّعي حقها في احتكار التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة. حتى إن النائب الأول للجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي (مجلس الشيوخ) فلاديمير جباروف، بدوره، عبّر عن رأي مفاده بأن كلمات إردوغان جاءت عن غضب بسبب حالته الانفعالية. في الواقع، إذا تم أخذ هذه الكلمات على محمل الجد، فإن هذا يعني أن أنقرة لا تهدف إلى مكافحة الإرهاب، وإنما إلى محاربة نظام الأسد. بالمناسبة؛ إردوغان لا يخفي أن مثل هذا الهدف قد تم وضعه حقاً، وهو ما أكده ممثلون أتراك مطلعون. المعلق السياسي التركي الشهير فكرت بيلا صرح مؤخراً بأن الأهداف الرئيسية لتركيا في سوريا «هي بالتحديد إطاحة نظام الأسد وتوفير مكان للإسلاميين المتطرفين في البلاد». ليس من قبيل الصدفة، ورداً على اتهامات بعدم شرعية الوجود العسكري لتركيا في أراضي الدولة العربية، قال إردوغان، في اجتماع مع المشرّعين، إن القوات التركية «دخلت سوريا بدعوة من الشعب السوري وليس بدعوة من الأسد»، وبالتالي لن تغادرها قبل أن يطلب منها الشعب ذلك. يرى بعض المحللين العرب، بمن فيهم المعارضون لدمشق، أن في هذا نية مبطنة لضم جزء من الأراضي السورية أو على أي حال الاحتفاظ به لفترة طويلة جداً.
واضح أن درجة حرارة الخطاب ترتفع أحياناً وتنخفض أحياناً أخرى. من المميز؛ ورغم حدة الخلافات مع موسكو وطهران، أن إردوغان لا يزال مستمراً في الحديث عن الحاجة إلى مواصلة التعاون الثلاثي في إطار «عملية آستانة». وهذا ما يدور الحديث عنه في موسكو أيضاً، حيث لا يولون أهمية كبيرة للتهديدات التي يطلقها بعض السياسيين الأتراك. لا يوجد أحد هنا يرغب في أن تتدهور العلاقات مع أنقرة. لكن الخبير العسكري التركي مسعود حكي، أعلن أن تركيا مستعدة لإعلان الحرب على روسيا، وأن الـ25 مليون مسلم الذين يعيشون في روسيا سيمزقون البلاد من الداخل عند أول دعوة. هل من الممكن أن تكون مثل هذه التهديدات حقيقية في علاقات الأتراك مع الدولة التي يأتي منها 7 ملايين سائح سنوياً لقضاء إجازاتهم في تركيا حاملين نوايا صديقة لها وبالأخص أنهم ليسوا من المسلمين فقط؟
في إدلب؛ وفي الجزء الجنوبي الغربي بشكل أساسي، هناك ثلاث مجموعات من المتشددين ذوي الأصول التركية، الذين، وبغض النظر عن انتمائهم إلى مجموعة أو أخرى، فإنهم يتحدون في إطار انتمائهم إلى حضارة تركية مشتركة: الأولى: مجموعة التركمان المحليين. الثانية: المتطرفون من جمهوريات آسيا الوسطى (الأوزبك والكازاخ... وغيرهم) والمناطق الروسية (التتار والباشكير... وغيرهم). والثالثة: الأويغور الذين وصلوا من منطقة شينغيانغ؛ ذاتية الحكم في جمهورية الصين الشعبية، حيث، وحسب رأي أنقرة، يتعرضون للتمييز فيها. يُصنّف الأتراك من «رابطة الدول المستقلة» والأويغور بأنهم أكثر المقاتلين وحشية بين الجماعات الإرهابية. وفقاً للخبراء العسكريين الروس؛ لوحظ عسكريون من الجيش التركي يعملون مستشارين في صفوف مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المصنفة دولياً منظمةً إرهابية. وفي الوقت نفسه، فإنَّ موسكو واثقة بأنه عن طريق المفاوضات بين القادة، سيتم التغلب على الأزمة، وبأن المصلحة المتبادلة هي التي ستسود وتتغلب على المشكلات التي ظهرت. ليس لدى حلف الناتو، الذي ناشده إردوغان، أي أساس للتدخل في الصراع، لأنه لا يوجد أي تهديد لتركيا على أراضيها، وسوريا في الواقع تدافع عن نفسها بغض النظر عن الطريقة التي يتعامل بها أي كان من الغرب أو المنطقة مع دمشق. من غير المرجح أن تنجح السلطات التركية في جذب الأوروبيين إلى الصراع بترهيبهم باللاجئين. في الوقت نفسه، فوجئت روسيا بمحاولات بعض الأوساط في الغرب إضفاء الشرعية على الإرهابيين من «هيئة تحرير الشام» وتغيير مواقفهم تجاه شخصيات مثل الجولاني، حيث يجري على نطاق واسع تعميم مقابلة أجريت معه مؤخراً.
يمكننا أن نفترض سيناريوهات عدة لتطور الوضع في إدلب. سنقوم فقط بتسمية الخيارات الرئيسية، نظراً لوجود كثير من الخيارات:
أولها: سلبي للغاية لمصالح كل من روسيا ودول المنطقة، وقبل كل شيء سوريا وتركيا؛ وهو تصعيد النزاع إلى مستوى حرب شاملة بين أنقرة ودمشق. في هذا السيناريو، سيحدث ما يلي: ستفشل محاولات حل التناقضات الروسية - التركية. تبقى جميع أطراف النزاع في مواقعها السابقة. الجيش التركي يبدأ عملية إبعاد الجيش السوري من المواقع التي شغلها. يضفي شركاء تركيا الغربيون وبعض الشركاء الإقليميين الشرعية على الإرهابيين من تنظيم «هيئة تحرير الشام»، الذي سيتم تغيير اسمه بحيث تتمكن الأمم المتحدة من حذفه من قائمة التنظيمات الإرهابية. أنقرة ستعزز بشكل كبير دعم ومد المعارضة المسلحة بأكملها وتنسيق أعمالها معها. سيتم تجميد «عملية آستانة». روسيا ستواصل دعم الجيش العربي السوري بمساعدة قواتها الجوية الفضائية، من دون أن تدخل في صدام مباشر مع الجيش التركي. ستوضع القيادة السياسية الكردية لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)» والقيادة العسكرية لـ«وحدات حماية الشعب (YPG)» أمام خيارين: إما البقاء على حياد، أو الانضمام إلى الجيش السوري، مع إدراك أن صدامهما مع الأتراك أمر لا مفر منه. نزوح جماعي للمدنيين من إدلب إلى المناطق الشمالية من المقاطعة وتجاوز الحدود إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. سيبذل المجتمع الدولي جهوداً لإنهاء الصراع العسكري. من الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه الوضع بعد ذلك نظراً لتعلقه بعوامل عدة. لكن فكرت بيلا على حق: هذه ستكون تلك الحرب التي لن تستطيع تركيا الفوز بها.
السيناريو الثاني: مفيد لمصالح جميع الدول، لأنه في هذه الحالة سيتم التمكن من وقف المواجهة العسكرية واستبعاد التصعيد. سيتفق بوتين وإردوغان في اجتماع شخصي على حل الخلافات. أحد عناصر التسوية هو الانسحاب التدريجي للقوات التركية من إدلب، ثم من جميع أنحاء سوريا، ولكن مقابل ثمن معين. ستوقف المعارضة، المدعومة من أنقرة، صراعها المسلح ضد النظام، ولكنها ستتلقى ضمانات بإدراجها في عملية سياسية كاملة لتنفيذ قرار مجلس الأمن «2254». وفي الوقت نفسه، فإن الجماعات المصنفة من قبل المجتمع الدولي مجموعاتٍ إرهابيةً ستبقى خارج نطاق الشرعية وستتم ملاحقتها من قبل جميع أطراف عملية المصالحة. سيستمر «إطار آستانة» في عمله وسيحصل على دفعة جديدة لحل المشكلات التي لم يتم حلها بعد. سيحصل الجانب التركي على ضمانات لمنع أي أعمال عدائية ضده من قبل القوات الكردية وأي توغل لها في الأراضي التركية.
الخيارات المختلفة للسيناريو الثالث ستكون بطريقة أو بأخرى مرحلية بين الاثنين المذكورين أعلاه... ربما، لفترة من الوقت؛ صياغة «اتفاق سوتشي» معدل؟ لكن الأهم اليوم هو وقف العنف.

 

*رئيس "معهد الاستشراق" التابع لأكاديمية العلوم الروسية/موسكو


* نقلا عن "الشرق الأوسط"



مقالات أخرى للكاتب

  • هل تلجأ روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية بشكل استباقي؟
  • روسيا والصين في العالم: «ظهراً لظهر»!
  • هل سيستمر التحالف البولندي ـ الأوكراني؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي