ليست الحرب الأخيرة
2023-10-27
 عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

في وقت ما قد يكون قريبا، سوف يتوقف إطلاق النيران مؤقتا في الحرب الراهنة، وهي أعنف مواجهة فلسطينية خالصة مع كيان الاحتلال، نزفت وتنزف فيها «غزة» كما لم يحدث قبلها أبدا، وبلغ عدد الشهداء والشهيدات فيها نحو ثمانية آلاف حتى لحظة كتابة هذه السطور، نصفهم من الأطفال والنساء، وربما تتضاعف الأرقام في ما بعد، مع احتساب آلاف المدفونين لا يزالون تحت الأنقاض، إضافة لضحايا الحصار والتجويع والتشريد وقطع المياه والكهرباء والوقود وكل موارد الحياة، ومن دون أن يخف وقع الكارثة بنجدة مؤثرة، فعشرات الشاحنات من «معبر رفح» إلى جنوب «غزة» حتى اليوم، لا تمثل سوى «قطرة في محيط الاحتياجات العاجلة» بوصف أنطونيو غوتيريش سكرتير عام الأمم المتحدة نفسه.
غير أن الحرب، التي يبدو فيها وجه المأساة الفلسطينية ظاهرا إلى حد الإبادة الجماعية، حملت أيضا وجوه صمود وبطولة خارقة لا تخفى، فهذه أول مرة تعبر فيها قوات المقاومة الفلسطينية من الأراضى المحتلة عام 1967 إلى الأراضي المحتلة في نكبة 1948، ليس باختراق فدائي محدود، ولا بعمليات استشهادية، بل بقوات نخبة عالية التدريب جاوزت الألف، وكجيش نظامي محترف، يتقن الخداع الاستراتيجي والمفاجأة المذهلة، وتحارب جيش الاحتلال في عقر كيانه وقواعده، وتسحق استخباراته وتكنولوجياته وضباطه وجنوده، وتسيطر لأيام طويلة على نحو 500 كيلومتر مربع، وتنفذ انسحابا كفؤا منظما عبر طرق مرئية ومخفية، ومعها مئات الأسرى تحتفظ بهم في مدن أنفاق هائلة، لم ينجح قصف غزة بالطائرات والقنابل الأمريكية «الزلزالية»، وبما يساوى عدة قنابل ذرية حتى اليوم، في الوصول إلى أغلب قادة كتائب المقاومة، ولا في كشف خرائط الأنفاق، ولا في الإضرار بالجهد القتالي الفلسطيني الرئيسي، رغم التدمير الهمجي المعمم لنحو نصف مباني قطاع «غزة» ووحداته السكنية، ورغم نزوح أكثر من نصف سكان «غزة» إلى الجنوب والوسط، وفي المستشفيات ومدارس «الأونروا»، ورغم الانهيار الكلي للنظام الصحي، لا تزال «غزة» صامدة كقلاع الأساطير، تودع شهداءها بالدموع والاحتساب كل صباح ومساء، بينما يهرب مئات آلاف «الإسرائيليين» المحتلين المذعورين من مستوطنات غلاف غزة، ومن مستوطنات الجليل الأعلى في الشمال، ويفقد كيان الاستيطان الإسرائيلي مليارات الدولارات كل يوم، وتتدهور عملته «الشيكل» في اطراد، ويدفع حليفه وراعيه الأمريكي عشرات المليارات من الدولارات،
ويحشد أقوى حاملات طائراته وقطعه البحرية الكبرى، وينزل الآلاف من كبار جنرالاته وقواته الخاصة على الأرض، لحرب منتظرة مع قوات المقاومة الفلسطينية، وتحت شعار «إبادة حماس»، ويؤجل الحليفان المتطابقان الأمريكي و»الإسرائيلي» مرحلة الغزو البري، خصوصا بعد إخفاق بروفة الغزو في «خان يونس»، ومفاجأة المقاتلين الفلسطينيين لسرية غزو، وتدمير دباباتها وآلياتها وقتل وجرح جنودها، إضافة لاستمرار هجمات المقاومين الفلسطينيين لعمق الكيان في قاعدة «زيكيم» وغيرها، فوق رشقات الصواريخ المحطمة لأعصاب ونفسية العدو، وهو ما يبشر بهزيمة محققة ـ بعون الله ـ لقوات الجيشين الإسرائيلي والأمريكي عند حلول مواعيد الغزو البري، وهي عشرة أضعاف قوات «حماس»، مع فوارق التسليح المرعبة على الورق، لكنها لا تملك عقيدة قتال كالتي لدى المقاومين الفلسطينيين، فلا تل أبيب ولا واشنطن ولا غيرهما من عواصم الغرب المعادي،
لا أحد من هؤلاء ولا جميعهم، بوسعهم احتمال خسائر بشرية فادحة، قد تلحق بهم في قتال الرجال على الأرض وجها لوجه، إضافة لما جرى من تصدير الارتباك والقلق والعار إلى صفوف الغرب نفسه، بإحباط قيادة المقاومة لأكاذيبهم الوقحة، ولقصصهم «المفبركة» عن قطع قوات المقاومة لرؤوس الأطفال والرضع واغتصاب النساء، وتشبيه سلوك «حماس» بوحشية «داعش»، والأخيرة لم تخض أي حرب ولا قتال مع كيان الاحتلال، وكانت غالبا مجرد «دمية» في يد المخابرات الغربية والإسرائيلية تقتل العرب والمسلمين، بعكس «حماس»، التي هي حركة مقاومة فلسطينية، أيا ما كان خلاف الرأي مع طريقة تفكيرها، وقد قدمت مثالا راقيا على أخلاق الحرب من المنظور العربي الإسلامي، وبشهادة أسرى العدو نفسه، على طريقة ما أعلنته الأسيرة الإسرائيلية المطلق سراحها السيدة ليفشيتز، التي فضحت ـ دون قصد ـ كل افتراءات «إسرائيل» والحلف الغربي المعادي، وتحدثت عن حسن معاملتها وقت الأسر في أنفاق «حماس»، وعن توفير كل رعاية ممكنة لها دواء وطعاما وعناية، حتى في توفير عبوات «الشامبو» و»البلسم» لكل الأسيرات، وهو ما جعل الأسيرة المسنة العائدة لأهلها عدوا لدعاية «الإسرائيليين» والأمريكيين والغربيين عموما، وكأنها صارت عضوا في كتائب «حماس» النسائية.

قد لا يكون «الطوفان» هو الحرب الأخيرة، إنه بامتياز أول علامات ساعة التحرير المقبل
لكل فلسطين، وبداية النهاية لفاشية وعنصرية وإجرام واحتلال كيان الاغتصاب

والمعنى في ما جرى ويجرى ببساطة، أن المقاومة الفلسطينية الجديدة، فوق إذلالها لجيش الاحتلال، والتهشيم الكامل لصورته المصطنعة كقوة لا تقهر، فإنها تكسب أرضا معنوية جديدة، وتقدم نفسها لأحرار العالم وضمائرهم المستيقظة في بطء، تزيده اطرادا وصحوا مذابح العدو وفظاعات حربه، وتحيى القضية الفلسطينية من موات، وهو تطور لم يحدث فجأة صباح هجوم المقاومة في 7 أكتوبر 2023، فقضية الاحتلال العنصري الإرهابي لم تبدأ اليوم، ومجازره متواصلة بالعشرات والمئات، من مذابح «دير ياسين» و»الطنطورة» و»كفر قاسم» و»صبرا وشاتيلا» إلى مجزرة المستشفى «المعمداني»، وهو قاتل وحارق الأطفال والنساء والمسنين والمساجد والكنائس والمدارس، و»إسرائيل» هي «أم الإرهاب» الغربي الأمريكي وسليلته، وما من قوة احتلال لها حق مزعوم في «الدفاع عن النفس»، بل الشعب الفلسطيني المبتلى بالاحتلال، هو صاحب الحق الأصيل في الدفاع عن النفس، وفي استرداد الكرامة والأرض ودفع العدوان، ثم أن «دولة» الاحتلال ليست كيانا طبيعيا بأي معنى، وهي بلا دستور وبلا خريطة حدود، ونتنياهو المجرم رئيس وزراء العدو، تحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، وكان يخاطب الكراسي الفارغة أمامه، إلا من حماته الأمريكيين والغربيين وأتباعهم،
وقدم لهم خريطة «لإسرائيل»، تضم كل أراضي فلسطين التاريخية، بما فيها القدس والضفة الغربية وغزة نفسها، وجرت هذه العجرفة ـ طبعا ـ قبل هجوم المقاومة صباح السابع من أكتوبر، فوق قتل المئات في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، تضاف إليهم المئات اليوم، إضافة لأسر الآلاف، واغتيال قادة الأسرى في سجون العدو، وتهويد وتدنيس القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتغول المستوطنات الاستعمارية في الضفة الغربية، وإعلان الرفض «الإسرائيلي» البات لإقامة أي دولة فلسطينية، وتقويض أي أساس جغرافي وسكاني لهدف إقامة دولة فلسطينية هزيلة، والسخرية الفعلية اليومية من فولكلور «حل الدولتين»، الذي يتغنى به أغلب حكام الدول العربية، وهم يعرفون يقينا، أنه لا مفاوضات ولا يحزنون، ويريدون ـ فقط ـ ستر عوراتهم أمام شعوبهم، وإفساح المجال لحليفهم «الإسرائيلي» وراعيهم الأمريكي المشترك، وهو ما كان سببا موضوعيا لأخذ الشعب الفلسطيني لقضيته بين يديه، خصوصا مع تجذر فكرة الثبات على الأرض، وبدء مرحلة جديدة من سيرة المقاومة العفية بأجيال جديدة، من «قيامة القدس» و»سيف القدس» إلى «طوفان الأقصى»، وقد لا يكون «الطوفان» هو الحرب الأخيرة، إنه ـ بامتياز ـ أول علامات ساعة التحرير المقبل لكل فلسطين، وبداية النهاية لفاشية وعنصرية وإجرام واحتلال كيان الاغتصاب، وروح ثقة أكيدة مضافة لعبقرية وإبداع الشعب الفلسطيني، وقد صارت له الأغلبية السكانية على أرضه المقدسة من جديد،
وكما لم يحدث أبدا منذ نكبة وتهجير حرب 1948، وهو ما يعيد القضية إلى سيرتها الأولى، ويكشف خواء أفكار أزمان الهزيمة، والبحث عن فتات حق لا عن أصل الحق، فأصل الحق الفلسطيني في فلسطين من النهر إلى البحر، وقد يمد الغرب «إسرائيله» بكل الأسلحة والأموال، لكنه لا يستطيع إعادة نفخ الروح في كيانها، مع نضوب مخازن «الهجرة اليهودية» المستعدة للقدوم إلى الكيان، ومع تصاعد معدلات التهجير العكسي، وانكشاف الحجم المريع لمزدوجي الجنسية في الكيان المصطنع، واندفاعهم للهروب في أي لحظة خطر، فقد تحطمت وتتحطم معنويات المستوطنين، وسقطت وتسقط خرافة اندماج «إسرائيل» في البيئة العربية الإسلامية المحيطة، وتداعت أدوار ووعود اتفاقات «إبراهام» ملعونة الذكر، وتزلزلت أساطير «جيش الدفاع» الموهوم، وصارت كل أنظمة التطبيع في قفص الاتهام، وصار مطلب تجميد الاتفاقات مطروحا حتى في الدوائر الرسمية، فقد بدأت مرحلة تاريخية جديدة، ودخل الكيان الإسرائيلي في دورة «العد التنازلي»، وصولا لإقامة دولة ديمقراطية بأغلبية فلسطينية وأقلية «إسرائيلية» في مدى سنوات تأتى، وبسلاسل انتفاضات شعبية وصدامات مسلحة متراكمة وحاسمة الأثر، وأيا ما كانت نهايات الحرب الجارية اليوم.

*كاتب مصري - القدس العربي



مقالات أخرى للكاتب

  • خطة محو الفلسطينيين
  • من حق الشعب الفلسطيني أن يفرح باتفاق وقف الحرب
  • أساطير غزة التي لا تفنى






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي