كيف وقعنا في ورطة مالية وخيمة كهذه؟ الإجابات تكمن في التاريخ
2022-10-02
جيمس مور
جيمس مور

لنتخيل معاً أن رائد فضاء بريطانياً، على غرار هيلين شارمان أو تيم بيك، ترك الأرض في بعثة إلى الفضاء السحيق قطعت الاتصالات به، مثلاً، بين عام 2006 واليوم. ماذا قد يكون رد فعله إزاء الحال اليائسة التي يمر بها اقتصاد بلاده؟ ما السؤال الأول الذي سيطرحه؟ أعتقد بأنه سيكون سؤالاً على غرار، ما الذي حصل بحق الجحيم؟

هو سؤال قد نطرحه أيضاً على أنفسنا اليوم، كيف حدث هذا؟

عام 2006، سجل اقتصاد المملكة المتحدة نمواً بلغ 2.6 في المئة، هو رقم ليس مذهلاً بأية حال من الأحوال، لكنه مفيد بالقدر الكافي. هو بالمناسبة أعلى قليلاً مما قال وزير المالية كواسي كوارتنغ إنه يستهدفه حين شرع في الجولة المدمرة من التخفيضات الضريبية الممولة بالديون والمخصصة للأغنياء التي كشف عنها في موازنته المصغرة البائسة في 23 سبتمبر (أيلول).

وكان أسوأ نمو سجل على مدى عهدي رئيسي الوزراء توني بلير وغوردون براون قبل ذلك هو 2.1 في المئة. فقد سجلت معدلات نمو كثيرة كانت أفضل بكثير من ذلك. كان ما حدث نتيجة لمجموعة من الأزمات الدولية والتدهور الشديد الذي أصاب عملية وضع السياسات في الداخل. صحيح أن بعض الضربات لم يمكن تجنبها، لكن هذا لا يصح عليها كلها قطعاً.

بدأت الأمور تنحرف في النصف الثاني من عام 2007، عندما قفز الخبر الثانوي من الصفحات المالية للصحف إلى صفحاتها الأولى بعدما تبين أن بنك إنجلترا كان يدعم "نورثرن روك"، وهو مصرف متوسط الحجم. وبدأ الناس في الاصطفاف خارج فروع المصرف لسحب أموالهم وشهدت البلاد أول "سحب مكثف للأموال" من أحد المصارف منذ عقود.

وشهد العام التالي ركوداً ذا أبعاد تاريخية (على الأقل إلى أن حل كورونا)، فتقلص اقتصاد المملكة المتحدة 4.2 في المئة مع تقديم انتقال عدوى أزمة الرهون العقارية الثانوية الأميركية جرعة كبيرة من الإنفلونزا المالية إلى البلاد. وانتهت الحال بالحكومة إلى اقتراض المليارات من الجنيهات الاسترلينية لدعم مصارف المملكة المتحدة.

وفي الركود الناتج من ذلك تلقّى اقتصاد المملكة المتحدة ضربة أكبر مقارنة بأغلب منافسيه الكبار، بسبب قطاعه المالي الضخم على نحو غير متناسب. وخرج من الركود ببطء أيضاً.

وأنتجت الانتخابات العامة عام 2010 تحالفاً بين المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون والديمقراطيين الليبراليين بقيادة نيك كليغ، أسفر عن برنامج تقشفي صمم لموازنة دفاتر البلاد. وشكّل ذلك تحدياً أعظم كثيراً مما كان جورج أوزبورن، وزير المالية، قد تمناه. لقد تباطأ "الاتجاه الأساسي لمعدل النمو" في المملكة المتحدة. وقال منتقدون إن القرار بضغط الإنفاق كان سبباً رئيساً. وأصبح نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي يقل عن اثنين في المئة أمراً طبيعياً مع اتباع البلاد مساراً بطيئاً. لكن الآتي كان أعظم.

حلت الصدمة الاقتصادية التالية، طبعاً، بفضل بريكست. لا يستطيع تقليل الحكومة من شأن النتائج الضارة لاستفتاء عام 2016، ومحاولة المعارضة ألا تتحدث أكثر مما ينبغي عنها، أن يلغي هذه النتائج. كان ديفيد كاميرون هو الذي دعا إلى الاستفتاء، في محاولة لقمع المناقشة الداخلية التي كانت مستعرة في حزب المحافظين، ولم يسفر الانتصار غير المتوقع للخروج في مستهل الأمر عن حجم الصدمة الذي توقعه بعضهم.

لكن ثقة المستثمرين اهتزت لأن المملكة المتحدة وجدت نفسها في مأزق سياسي حلته الانتخابات العامة التي أتت ببوريس جونسون إلى السلطة. غير أن البريكست غير السلس الذي طبقه ليسدد حسابه مع المتشددين الذين وفروا الأساس للدعم الذي حظي به سرعان ما أرخى بثقله.

فقد أضرت الخطوة بالاقتصاد، إذ سددت ضربة قاصمة إلى التجارة الدولية. ومن ثم حلت الجائحة.

ومجدداً، عانت المملكة المتحدة على نحو غير متناسب، وعادت المعاناة هذه المرة إلى حد كبير إلى تردد حكومتها. كان الفرض المتأخر للإغلاق في مارس (آذار) 2020 سبباً في مواجهة البلاد خطر تحول أزمة الصحة العامة إلى أزمة وظائف. وجرى تجنب هذا الخطر برعاية شخص يدعى ريتشي سوناك. استعان وزير المالية آنذاك بمؤتمر الاتحادات المهنية واتحاد الصناعة البريطاني، مما أفضى إلى إنشاء برنامج الاحتفاظ بالوظائف في ظل فيروس كورونا.

وفق مكتبة مجلس العموم، حصل 11.7 مليون موظف على إجازات مدفوعة من خلال هذا البرنامج، الذي سدد ما يصل إلى 80 في المئة من أجور كل موظف بحد أقصى بلغ ألفين و500 جنيه (ثلاثة آلاف و80 دولاراً وقتذاك) شهرياً، وبكلفة وصلت إلى 70 مليار جنيه.

ومع خضوع قطاعات كاملة إلى سُبات قسري، أدى الركود الناتج من ذلك رغم الدعم إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تاريخية بلغت 9.3 في المئة، وهي نسبة أسوأ بكثير مما شهدته المملكة المتحدة خلال الأزمة المالية. وانهارت العوائد الضريبية، مما خلف فجوة متوسعة في المالية العامة. ومع ذلك، استطاع من تحملوا مسؤولية الاقتصاد على الأقل أن يعزوا أنفسهم باحتمال حدوث انتعاش سريع.

في البداية، هذا هو ما حدث. انتعش الاقتصاد مع إعادة متاجر التجزئة غير الضرورية والمقاصف والنوادي ودور السينما والمشاريع الرياضية والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية وغيرها كثير فتح أبوابه. وبدأ المحظوظون بما يكفي ليتمكنوا من توفير المال خلال الجائحة في الإنفاق من جديد. ثم أوقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كل شيء، مع هجومه الوحشي على أوكرانيا، الذي أشعل شرارة قفزة في أسعار الطاقة وترك البلدان الغربية تواجه أزمة طاقة إلى جانب عودة التضخم إلى الحياة.

ومرة أخرى، وجدت المملكة المتحدة نفسها قريبة إلى حد غير مريح من الاضطرابات. رغم أنها ليست واحداً من البلدان الأكثر تعاملاً اقتصادياً مع روسيا، لكنها تعتمد بشدة على الغاز المستورد، إذ ارتفعت أسعار الغاز في مختلف أنحاء العالم مع انتقام الكرملين من العقوبات الاقتصادية الغربية من خلال خفض المعروض من هذه السلعة.

ازداد سعر الطاقة المحلية في المملكة المتحدة من ألف و42 جنيهاً سنوياً في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 إلى ألف و971 جنيهاً في مارس 2022، وكان من المتوقع أن يبلغ ثلاثة آلاف و549 جنيهاً في أكتوبر 2022. وقبل أن تتدخل الحكومة، رجحت بعض التقديرات بلوغه ستة آلاف جنيه. أما الشركات والمؤسسات مثل المدارس، غير المحمية بالسقف السعري، فشعرت بصدمات أكبر.

في هذه المرحلة بدأت الجروح التي تنزلها البلاد، بنفسها حصراً، تتالى. في مواجهة الحاجة إلى تفادي الأزمة، اختارت رئيسة الوزراء ليز تراس ضمان أسعار الطاقة للجميع. لكن هذا من شأنه أن يعود حتماً بالمنفعة على أكثر المنازل استهلاكاً للطاقة. ولم ينتقد معهد الشؤون الاقتصادية، المؤسسة البحثية المتخصصة في "السوق الحرة"، الخطة باعتبارها "رفاهاً عارماً للطبقة المتوسطة" عن عبث.

قد تزعم تراس أن الاستهداف سيكون بالغ التعقيد، وقد يؤدي إلى نتائج معاكسة، وقد يكون باهظ التكاليف في خضم أزمة. لكنها مع وزير المالية كوارتنغ تشددت في صنع رديء للسياسات وارتكاب أخطاء يمكن تجنبها.

لقد رفضا فرض ضريبة على الأرباح غير المتوقعة لشركات الطاقة، كان من شأنها أن تساعد في مواجهة فاتورة بلغت قيمتها 100 مليار جنيه. وسجلا الدين في دفاتر البلاد في شكل مباشر، بدلاً من إنشاء آلية تستطيع شركات الطاقة من خلالها أن تسدد الإعانات على مدى 20 سنة، مثلاً.

تدابير كهذه كانت قد تساعد في طمأنة الأسواق. وبدلاً من ذلك، مضى الثنائي إلى ما هو أبعد من ذلك. أفادت تسريبات إعلامية بأن هناك تخفيضات ضريبية ممولة بالديون بقيمة تبلغ نحو 30 مليار جنيه استرليني. وإلى ذلك أضاف وزير المالية في موازنته المصغرة 15 مليار جنيه في تخفيضات ضريبية إضافية، واستبعد مكتب مسؤولية الموازنة، الذي يقيم عادة خطط الإنفاق الحكومية ويقدم توقعات، عن العملية.

دب الذعر في الأسواق. شبه كبير خبراء الاقتصاد لدى "يو بي إس لإدارة الثروات" بول دونوفان حكومة المحافظين بـ"طائفة تنذر بيوم القيامة"، ورأى أن خفض الضرائب من غير المرجح أن يوفر الدفعة التي يأمل بها تراس وكوارتنغ. ولم يكن وحده.

في تدخل غير مسبوق، قال صندوق النقد الدولي الشيء نفسه تقريباً، ولو بعبارات أكثر لياقة. هل سينتهي الأمر بتراس وكوارتنغ وهما يقرعان أبواب الصندوق، وكل يحمل قبعته بيده، ليطلبا حزمة إنقاذ؟ لم يعد الاحتمال غير قابل للتصور.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • إيلون ماسك يزرع رقائق كمبيوتر في الأدمغة... كيف أحصل على واحدة؟
  • مشكلة الوعد بتخفيض الضرائب: لا يمكننا تحمل كلفته
  • هل يمكن لمنتدى دافوس أن يفجر مفاجأة؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي