موقف موسكو الصعب وموقف بكين الأصعب
2022-03-01
علي قاسم
علي قاسم

الصينيون يعلمون أكثر من غيرهم أن إناء الخزف لا يمكن أن يعود إلى وضعه السابق بعد أن ينكسر. وأن التراجع في المعركة أصعب من الفوز فيها، وأن الحكمة تقتضي بذل الجهد في المصالحة. ولكن، ما العمل عندما تكون الأطراف المتصارعة غير راغبة بالمصالحة؟

خلف الحرب الساخنة التي اندلعت في أوكرانيا اليوم حرب باردة على أشدها، ليس بين روسيا والغرب، بل هي حرب بين الصين والولايات المتحدة محورها التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي وتقنية G5، وما روسيا سوى ذريعة لإكراه بكين على الاختيار بين موقفين، كلاهما أمر من العلقم.

الإدارة الأميركية السابقة بزعامة الجمهوريين ودونالد ترامب ركزت على العلاقات مع الصين معتبرة أن الوضع الراهن لهذه العلاقات لا يمكن أن يستمر، وأن صعود الصين قد وصل إلى نقطة تحوّل، بحيث أصبح مزيج “الاحتواء والتجارة” الذي ميز السياسة الأميركية على مدى عدة عقود غير مجد في التعامل مع بكين.

نفس الإدارة أظهرت الود لموسكو، وبوتين تحديدا. واليوم بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا يسارع ترامب للإشادة بفضائل بوتين “الذكي”، منتقدا القادة الغربيين الذين اعتبرهم “أغبياء جدا”، وذلك في خطاب ألقاه مساء السبت خلال التجمع السنوي الكبير للمحافظين الأميركيين في أورلاندو بفلوريدا.

المشكلة، كما يقول ترامب، ليست أن بوتين ذكي، لأنه “بالطبع ذكي”، المشكلة الحقيقية هي “أن قادتنا أغبياء جدا”، معتبرا أن “ضعف” خلفه الرئيس الديمقراطي جو بايدن هو “السبب في الغزو الروسي لأوكرانيا”.

ترامب كعادته على خطأ، وبوتين بغزوه لأوكرانيا أثبت أنه يفتقد إلى الذكاء، لقد ابتلع الطعم الذي رماه له الغرب وورّط بكين قبل أن يورط موسكو بحرب لن يربحها، ولن تعود عليه إلا بالويلات.

سيكون من دواعي سرور الغرب، الولايات المتحدة خصوصا، أن تخطئ بكين في حساباتها
وتختار الاصطفاف إلى جانب موسكو لتجد المبررات التي تبحث عنها لمحاصرتها اقتصاديا

محاولات واشنطن لإضفاء صبغة سياسية على الصراع مع بكين تفضحها الأرقام التي تؤكد أن الاقتصاد الصيني سيتخطى الاقتصاد الأميركي ليكون الأكبر في العالم مع نهاية العقد الحالي، وأن الصين مرشحة للهيمنة في جميع مجالات التكنولوجيا الجديدة بحلول عام 2035.

وتخشى واشنطن إن نجح الحزب الحاكم في الصين في تحقيق ذلك أن يتم “رسم بقية القرن الحادي والعشرين بظلال حمراء فقط” في إشارة إلى الشيوعية.

ما من شك في أن الأهمية الاقتصادية لروسيا تتضاءل إذا ما قيست مع أهمية الدول الغربية التي تعتبر زبائن تصدير أكبر بكثير للصين، كما أنَّ تلك الدول مصادر أساسية للتكنولوجيا والاستثمار، وتتحكم أيضاً في وصول الصين إلى نظام الدولار الدولي.

لماذا التردد الصيني في اتخاذ القرار والوقوف إلى جانب أوروبا والولايات المتحدة، ولماذا القلق إذن؟

ما لم تقله حكومة بكين صراحة هو أن الصين تخشى أن تؤكل إن أُكل الثور الروسي الأبيض. وأن روسيا التي كانت تحت الحكم البلشفي عدوا للصين هي اليوم حليف استراتيجي لا يمكن التضحية به بسهولة.

تصريحات بكين الموجزة والدقيقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تتناقض مع تصريحات صدرت منذ عامين في بيان مطول مشترك بعد أول لقاء مباشر عقد بين بوتين وشي جين بينغ.

حينها أيد الزعيم الصيني مطالب روسيا بشأن تقديم ضمانات أمنية ملزمة من جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في المواجهة بشأن أوكرانيا؛ مما قدَّم دعماً حيوياً للرئيس بوتين وهو يواجه الغرب.

بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا باتت حكومة شي تنتقي عباراتها وتتحدث بأسلوب يتسم بالدقة والرصانة.

الصين اليوم ضحية نجاحها . وما عجزت عن تحقيقه واشنطن مع بكين،
التي لم تنسق حتى هذه اللحظة إلى إغراءات غزو تايوان، قد تحققه موسكو بغزوها لأوكرانيا

سيكون من دواعي سرور الغرب، الولايات المتحدة خصوصا، أن تخطئ بكين في حساباتها وتختار الاصطفاف إلى جانب موسكو لتجد المبررات التي تبحث عنها لمحاصرتها اقتصاديا، قبل أن تحقق بكين طموحاتها بتزعم العالم.

بالنسبة إلى الغرب، فإن التكنولوجيا التي وصفت بنفط العالم الجديد، يجب أن تبقى حكرا عليهم، لا يشاركهم فيها أي شريك.

لا أحد اليوم يتحدث عن مخاطر الأفكار الشيوعية التي لم يبق منها في الصين سوى الاسم، حيث بات الحديث يتركز حول مخاطر التكنولوجيا. وكما أعلن إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل والرئيس الحالي للجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي في شهادة أمام مجلس الشيوخ في فبراير 2021 “إن تهديد القيادة الصينية في مجالات التكنولوجيا الرئيسية يمثل أزمة وطنية ويحتاج إلى التعامل معه بشكل مباشر، الآن”.

بعد مرور 44 عاما على انطلاق الانفتاح الذي حققه “الدكتاتور الحكيم” شياو بينغ عام 1978، تمتلك الصين اليوم أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، ويعيش فيها أكبر عدد من المليارديرات في العالم.

ولكن، حلاوة الانفتاح الصيني على الغرب لم تأت دون مرارة أيضا.

الصين اليوم ضحية نجاحها الاقتصادي. وما عجزت عن تحقيقه واشنطن مع بكين، التي لم تنسق حتى هذه اللحظة إلى إغراءات غزو تايوان، قد تحققه موسكو بغزوها لأوكرانيا.

*كاتب سوري مقيم في تونس
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • غزة تفتقد ناجي العلي
  • العالم أصبح ذكيا.. ولكن، ماذا ربحنا وماذا خسرنا؟
  • تونس.. البلد الذي أنهى عصر الأحزاب






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي