أوكرانيا وأوهام الدعم الغربى
2022-02-17
 حسن أبو طالب
حسن أبو طالب

بينما حدّدت واشنطن وأيّدتها بريطانيا بأن موعد الغزو الروسى لأوكرانيا سيكون الأربعاء 16 فبراير الحالى، استنادًا إلى تقارير استخبارية أمريكية، مثلها مثل التقارير المزيّفة حول امتلاك العراق أسلحة نووية استخدمت لغزو وتدمير العراق، تلقى الرئيس بوتين إفادة من وزير الدفاع بأن جزءاً من المناورات الكبيرة التى جمعت قوات روسية وأخرى من بيلاروسيا قد انتهى، وجزءاً آخر على وشك الانتهاء، وجزءاً ثالثاً سوف يستمر بعض الوقت، مع إشارة إلى المناورات البحرية الكبرى لكل الأساطيل الروسية فى بحر بارنتس والبحر الأسود وبحر البلطيق، ومع أسطول المحيط الهادئ. الإفادة أعلنت على الهواء فى سابقة لا تقدم عليها الدول إلا لإرسال رسالة ذات مغزى آنى، وآخر استراتيجى فى الوقت ذاته.

المغزى الآنى يتعلق بأن روسيا لن تقدم على غزو أوكرانيا. تلك بدورها ضربة قوية لحالة الهيستريا السائدة فى عواصم غربية كثيرة، أبرزها واشنطن ولندن، وضربة لموجة التكهنات والتحليلات الموجّهة سلفاً بغرض توريط روسيا فى مستنقع أوكرانى يستنزف مواردها ويتيح للغرب عزلها دولياً وفرض عقوبات هائلة عليها، وفقاً للتصريحات التى كرّرها مراراً كل من الرئيس الأمريكى بايدن ورئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون.

المغزى الاستراتيجى يتعلق برسالة مفادها أن روسيا يمكنها أن توجّه الأحداث لصالحها رغم عنفوان الضغوط الغربية، وتكشف عملياً إلى أى مدى لا يعترف الناتو بحقوق الآخرين فى الأمن المتوازن، وأن كل وعوده لدعم أوكرانيا جاءت بعكسها. صحيح حصلت كييف على دعم عسكرى غير مسبوق إلى حد التخمة، ولكنها فقدت فى الآن نفسه أى دعم عملى إذا ما انزلقت الأمور بالفعل إلى مواجهات عسكرية، فقد أقدمت الولايات المتحدة على سحب خبرائها العسكريين وموظفى سفارتها فى كييف وطلبت من رعاياها الخروج من البلاد، وأكدت أنها لن تجازف بأى عملية إنقاذ لرعاياها إن حدثت حرب، فى موقف غريب لا يصدر عن قوة كبرى تضحى بمواطنيها علناً ودون مواربة. وعلى الدرب ذاته سارت كندا وبريطانيا وبولندا والمجر وأستراليا، بينما لم يصدر أى موقف مماثل من جميع الدول الآسيوية والأفريقية وغالبية دول أمريكا اللاتينية، فيما يجسّد حجم اللاثقة العالمية فى السياسات الغربية، وشكوك كبرى فى الأهداف الغربية الساعية لإثارة حرب ذات طبيعة عالمية، حتى لو كانت فى بقعة جغرافية محدودة.

جميع التحليلات الأمريكية والبريطانية تصور الأمر على أن الرئيس بوتين فى وضع حرج، وأن تراجعه عن غزو أوكرانيا بعد التهديدات الأمريكية والغربية، سيكشف مدى خسارته السياسية وعدم حصوله على شىء. وهى تحليلات تفيض ضلالاً وخداعاً. فموسكو لم تعلن أبداً عن نية الغزو لأوكرانيا، وأقل باحث فى إدارة الأزمات الدولية كان يدرك -وما زال- أن الحشود العسكرية الروسية والمناورات الكبرى التى استمرت لعدة أسابيع هى جزء أصيل من التفاوض فى مراحله الأولى غير المباشرة، والتى تحدّد الأولويات للتفاوض لاحقاً، وهدفها الرئيسى ليس أوكرانيا فى حد ذاتها، بل الناتو وتمدّده المستمر حتى الحدود الروسية، دون أدنى اعتبار لمبدأ الأمن المتوازن الذى يمثل أساس استقرار النظام العالمى.

فى المقابل، فإن مواقف مسئولى «الناتو» الاستفزازية بعدم التراجع عن ضم أوكرانيا للناتو لم تكن سوى جزء من عملية منهجية لتوريط روسيا فى أزمة ممتدة، دون أدنى اعتبار لمصالح أوكرانيا نفسها. وتُعد تصريحات المستشار الألمانى أولاف شولتس فى العاصمة كييف وأمام الرئيس الأوكرانى قبل يومين، وقبل وصوله إلى موسكو، بعدم وجود خطط لضم أوكرانيا فى الوقت الحالى، بمثابة صفعة للناتو نفسه واستفزازات مسئوليه الفاقدة للحكمة والبصيرة.

موقف ألمانيا على هذا النحو، ليس سوى خطوة لإعادة الاعتبار لضرورات الحوار مع موسكو، وضرورة أخذ مطالبها الأمنية على محمل الجد. وهنا تتبلور بدايات نهج دبلوماسى وإن تعلق شق منه بأزمة أوكرانيا مع الجمهوريتين الانفصاليتين فى إقليم دونباس، عبر تنشيط اتفاقية مينسك 2015، التى شاركت برلين فى وضع بنودها مع باريس، ولم تطبق، نظراً لتراجع كييف، فإن الشق الأهم فى النهج الدبلوماسى المرجّح سيتعلق بالضمانات الغربية الموثوقة بعدم تمدّد الناتو وعدم تهديد الأمن القومى الروسى. وتأتى إفادة وزير الخارجية سيرجى لافروف للرئيس بوتين، والمُعلنة بعد إفادة وزير الدفاع المشار إليها آنفاً، بأن هناك فرصة لحلول سياسية لكل الأزمات الصعبة، التى علق عليها الرئيس بوتين بالقول «حسناً»، بمثابة ضوء فى نفق التسويات والابتعاد عن منهج التوريط فى حروب تهلك الجميع.

فى السياق ذاته، فإن تصريح سفير أوكرانيا لدى لندن بإمكانية التراجع عن طلب الانضمام للناتو إذا كان ذلك يمنع الحرب، ورغم تراجعه لاحقاً، فإنه يعبّر عن الدوامة السياسية التى تعيشها النخبة السياسية فى أوكرانيا، واقترابها من تقديم تنازلات من أجل الحفاظ على وجودها كدولة قابلة للتطور. ولا شك أن حالة الهيستريا الدعائية الغربية، وإن جلبت الكثير من الأسلحة الغربية، فإنها أضرت بأوكرانيا حتى مع عدم حدوث حرب، فقد تراجعت التدفّقات الاستثمارية، وخلقت حالة رعب شعبى من غزو روسى محتمل صوّره الغرب على أنه حتمى، وصارت صورة أوكرانيا فى الإعلام الغربى كدولة معرّضة للفناء، أو للفوضى المدمّرة على أقل تقدير، ولم تعد الحكومة الأوكرانية فى حال يسمح لها بالحديث العدائى المباشر لروسيا، وجاءت تصريحات الرئيس بايدن بأنه لن يرسل أى قوات إلى أوكرانيا إن دخلت القوات الروسية، لأن ذلك سيؤدى إلى حرب عالمية بين قوتين نوويتين، بمثابة إفاقة للعقل الأوكرانى الرسمى، ولتؤكد أن أوكرانيا لن تجد الدعم المُتخيل من الغرب، والذى كل هدفه التخطيط لجعل أوكرانيا ورطة كبرى لروسيا لا أكثر ولا أقل، وأن الثمن الأكبر ستدفعه أوكرانيا وشعبها، ولن تحصد سوى هيستريا دعائية أخرى لتشويه روسيا وتبرير العقوبات الدولية عليها. أما أمن ووجود أوكرانيا ذاته فسيأتى فى مرتبة متأخرة جداً.

إفاقة العقل الأوكرانى من أوهام الدعم الغربى، خطوة مهمة تنعش آمال الحلول السياسية المتوازنة، ويأتى طلب كييف باجتماع منظمة الأمن والتعاون الأوروبى لمناقشة روسيا فى أسباب حشودها على الحدود الأوكرانية، خطوة رمزية، ولكنّها تُعزّز فكرة البحث عن مسارات سياسية للاجتماع مع الروس وبناء حالة ثقة تسمح لاحقاً بالمفاوضات الجادة والاتفاقيات المناسبة لأمن الجميع. والأمل ألا تتدخّل عواصم غربية معروفة بعدائها لروسيا، لتفشل تلك الخطوات، وتطيح بالجهود العقلانية لمنع الحرب والخراب.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – الوطن -



مقالات أخرى للكاتب

  • النيجر وتحدي الطامعين في أفريقيا
  • الغرب بين هزيمة روسيا والقبول الاضطرارى بها
  • الحوار الوطني في مصر... أسئلة تبحث عن إجابات






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي