والظاهر، حتى إشعار آخر، هو أن أميركا المنقسمة لا تزال منقسمة حول قرار ترمب. وإيران المنقسمة توحدت في رد الفعل على مقتل سليماني. فلا صوت في إيران يعلو على صوت "الموت لأميركا". ولا في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، وفي وسائل الإعلام الليبرالية سوى التخوف والتخويف والرغبة في تكبيل أيدي الرئيس الذي ازدادت قدرته على شن "ميني حرب" من دون موافقة الكونغرس بحجة الدفاع عن النفس وحماية الأمن القومي.
سوزان رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس أوباما تكتب أن "حلقة التصعيد قد تقود إلى حرب وإن قتل سليماني، وإن كان مبرراً بالدفاع عن النفس، ليس قراراً حكيماً إستراتيجياً، وقد يؤدي إلى هزيمة لأميركا، هي الخروج من العراق". وطهران تبدو قادرة على توظيف الاغتيال أكثر من واشنطن. لا بل ترى أن مشروعها الإقليمي يتقدم، من حيث أراد ترمب ضربه.
والمنطقة تدخل مرحلة بالغة التعقيد بمقدار ما تبدو المواقف واضحة وبسيطة. إدارة الرئيس الأميركي تنتقل من مواجهة الوكلاء إلى "الرد على صناع القرار الفعليين"، كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو. وأقل ما يهدد به ترمب رداً على تهديد طهران بضرب 35 هدفاً لأميركا في المنطقة هو ضرب 52 هدفاً في إيران نفسها. وهذا ما يسميه الإستراتيجيون سياسة "الذهاب إلى النبع" بدل تتبع السواقي وسياسة "تجفيف المستنقع بدل ملاحقة البعوض".
وجمهورية الملالي تتحدث عن ثأر وهدف. الثأر بضرب القواعد العسكرية الأميركية بصواريخها أو بفعل الوكلاء في المنطقة. والهدف هو "إخراج القوات الأميركية من غرب آسيا"، وهو نصر جيوسياسي لإيران. لكن ذلك ليس سهلاً، ولا حتى ممكناً، بصرف النظر عن التصرف كأن الحاجة انتهت إلى "الخدمات" التي قدمتها أميركا لإيران عبر غزو أفغانستان والعراق وإسقاط نظامين معاديين لجمهورية الملالي. فضلاً عن الدور الذي لعبته القوات الأميركية في محاربة "داعش" في العراق وسوريا، حيث كان وكلاء إيران يعملون تحت مظلتها الجوية.
واللعبة ليست مفتوحة إلى النهاية، كما يتصور المتحمسون لإيران والمراهنون على أميركا. فالثأر الإيراني محكوم بسقف الحفاظ على المشروع الإقليمي وشعار "ثأر لا حرب". والرهان الأميركي هو لمنع تكبير اللعبة. ولا أحد يعرف إلى أي حد يمكن أن ينزلق الطرفان إلى حرب يردد كل منهما أنه لا يريدها. لكن الكل يعرف أن تزايد النفوذ الإيراني وغياب الحماية الأميركية وصفة لتجدد قوة "داعش" في العراق.
* نقلاً عن الأندبندنت