مواجهة الثورة المضادة
أمام خراب خبيث كهذا، سيكون من الجنون والعبث التعامل مع بقايا نظام شمولي خطير كهذا بعقلية الناشطين، أو التهاون مع رموزه المندسة في بنيان الدولة وجهازها العام، أو في التعامل الهش مع مخططاته الخبيثة التي تعمل على قدم وساق عبر نشاط الثورة المضادة. لكن للأسف ما ظل يجري حتى الآن في طريقة إدارة قوى الحرية والتغيير خلال الأعوام الثلاثة الماضية من عمر الثورة كشف عن هشاشة خطيرة في التعامل مع مخططات الثورة المضادة لنظام الإخوان المسلمين. وإذا لم يتم تدارك تلك الطبيعة العبثية الهشة في طريقة تعامل "قحت" مع رموز وبقايا نظام فاشي، فإن السرطان الذي سمم به نظام الإخوان، الحياة العامة في السودان يمكنه أن يقضي بسهولة على هذه القوى التي لم ترتقِ في أدائها السياسي إلى تحدي استحقاقات وشعارات الثورة السودانية العظيمة. وحتى اليوم، نلاحظ في أدائها السياسي الهزيل والأداء الذي ظل يمارسه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عبر تكوين آلية وطنية أسماها "الآلية الوطنية لمبادرة الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام"، ما يشي بانقسام ما وصراع خفي، وهذا أخطر ما يمكن أن يقضي على مصير المرحلة الانتقالية التي لا تزال هشة.
لقد خلَّف نظام الإنقاذ المجرم بقايا ناشطة وفلول خبروا مداخل السياسة والسلطة عبر ممارسات وخبرات استمرت لـ 30 عاماً من التخريب في جهاز الدولة العام، وهم اليوم بما يملكون من أموال وخبرة في جهاز الدولة العام ومن ولاءات خفية كامنة في مفاصل وزارات الحكومة والخدمة المدنية، يعملون بنشاط في مواجهة التجريب السياسوي الهش الذي ظلت تمارسه قوى الحرية والتغيير في مواجهتهم من دون خبرة. ومع ذلك، فإن "قحت" ذاتها، عبر بعض كوادر أحزابها في مركز الخرطوم، ربما لا يمكنها أن تدرك أبداً فيما هي تستمتع بزهو السلطة وفتات غنائمها، أن تلك المخططات الإجرامية للثورة المضادة قد تكون أقرب إليها من حبل الوريد وحين ذلك سيكون قد قضي الأمر.
ثمة عدمية خطيرة في المزاج السياسي للأحزاب السودانية، عدمية يمكنها أن تتهاون مع أكبر المخاطر المصيرية التي تواجهها بطريقة لا يمكن تبريرها أبداً، بأي منطق سياسي أو عقلاني. إنها العدمية التي أسماها فتحي الضوء بـ"الشيء السوداني" وهو شيء يمكن لأي مراقب خارجي أن يرصد طبيعته الخطيرة من خلال ممارسات قوى الحرية والتغيير للأسف. وإن أخطر ما في هذا "الشيء السوداني" الاستعداد لممارسة مجاملات تؤدي إلى كوارث سياسية ومصيرية بالنسبة إلى السودان، ولا يعلم أثرها المدمر إلا الله، من دون أن تجد أي اكتراث من تلك القوى السياسية السودانية!
بانتظار التغيير
هكذا يمكننا القول إن الشعب السوداني اليوم في انتظار تغيير مصيري وضروري في الأداء السياسي لتحالف قوى الحرية والتغيير، خلال الأيام المقبلة التي سيتم فيها الإعلان عن الهيكلة الجديدة والإعلان السياسي الجديد للمجلس المركزي لتلك القوى بأطرافها الفاعلة كافة.
وإذا ظل العجز عن رؤية المصير السياسي باقياً كما هو الآن، في ممارسات "قحت"، فإن النتيجة ستكون كارثية، لأن غياب انتظام موقف واحد لها ضمن معايير مؤسسية لعمل سياسي جماعي يضع سقفاً وطنياً لبرنامج الأحزاب السياسية مجتمعة في مواجهة التهديد الكياني للسودان، سيعني بالضرورة مرحلة الدخول في الفوضى والمجهول لا محالة.
فحين يظن كل حزب في التحالف أن رهانه الوحيد نحو السلطة في المرحلة الانتقالية هو بمثابة الحل الذي ستفضي إليه النتائج السياسية للثورة السودانية. فذلك سيعني قصوراً في النظر وغباء في الممارسة السياسية، والأخطر من ذلك، غياباً لتحمّل المسؤولية الوطنية التي ستبدو شعوراً مجرداً، وغير قابل للتمثّل في برنامج سيادي وطني تتشارك فيه كل الأحزاب من أجل تحقيق مصير آمن لمرحلة الانتقال الديمقراطي في السودان.
إن مؤشرات الأداء السياسي الهش لممارسات الأحزاب السودانية عبر أداء قوى الحرية والتغيير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إذا ظلت على ما هي عليه الآن، حتى بعد التغيير المرتقب في هيكلتها ومجلسها المركزي، فإن هذا العطب الخطير سيكون العائق الأكبر، ليس في الوصول إلى نهاية انتقال ديمقراطي آمن فحسب، بل كذلك سيكون عائقاً كيانياً في الوصول إلى الإجماع الوطني، الذي يقتضي حدوداً دنيا مانعة من أي انقسام رأسي على هوية الكيان السوداني ذاته. عندئذ علينا أن ننتظر الفوضى والمصير المجهول.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس