حدود الانفراج والتفاؤل في المشهد الليبي
2021-07-24
محمد بدر الدين زايد
محمد بدر الدين زايد

اتسمت تطورات الأزمة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة بطابع خاص، وهو التحرك في مسارات شبه دائرية فيما يتعلق بالانفراج أو انسداد تسوية الأزمة، وبشكل ربما لم تشهده الأنماط الأخرى للأزمات الإقليمية كسوريا واليمن على سبيل المثال، فقد مرت مراحل متعددة بدت فيها الأمور أشبه باقتراب الحسم لصالح أحد طرفي الصراع، ثم عادت حالة عدم السيولة وعدم إمكانية الحسم لتبدأ الدورة مجدداً.

توازنات دولية وإقليمية

يمكن القول إن ما يحكم المشهد الليبي الراهن أنه نتاج توازنات دقيقة دولية وإقليمية تمنع حسم الصراع لصالح أي من الطرفين، وهما إذا اختزلنا المشهد، طرف الجيش الليبي ومجلس النواب باعتبار أنهما يقودان التيار المدني في البلاد غير الراغب في سيادة فصائل الإسلام السياسي على المقدرات الليبية، والطرف الآخر هذه الفصائل وميليشياتها وقوى الفوضى كذلك من ميليشيات عسكرية احترفت نظام الإتاوات. وبجوار كل هاتين أغلبية كبيرة من رافضي الإسلام السياسي ولكنها أغلبية جزء منها صامت قد يشارك في الانتخابات إذا ضمنت سلامتها، وقطاع آخر من الشعب الليبي يعارضها أيضاً، ولكنه مستعد لمهادنة هذه التيارات الإسلاموية تقارباً مع الغرب أو من باب الخشية منها. وفي مرحلة تقدم الجيش الليبي إلى طرابلس جاء التدخل التركي ونقل المرتزقة من الجبهة السورية ليقلب التوازن العسكري لصالح الإسلام السياسي، وهنا جاء التدخل المصري ممثلاً في تحذير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالتهديد بأن سرت خطٌّ أحمر ليعيد التوازن إلى المشهد العسكري.

يضاف إلى هذا التوازن العسكري للأطراف الداخلية والإقليمية في ليبيا توازن دولي آخر، تمثله رغبة واشنطن بشكل أساس في عدم انفلات المشهد العسكري، وكذا رغبتها أن يتسع دورها المباشر وغير المباشر في إدارة الصراع اعتماداً على علاقتها الإيجابية بكل أطرافه الإقليميين والأوروبيين فيما عدا روسيا، التي لن تخاطر أيضاً بتوسيع تورطها العسكري لعدم توافر المقومات السياسية واللوجيستية ولا حتى البيئة السياسية الليبية التي تسمح بهذا، وأنتج كل هذا نوعاً من التوازن العسكري والسياسي في المشهد الليبي، والأهم إدراك متزايد بعدم إمكانية الحسم العسكري في المرحلة الراهنة.

تطورات إيجابية

من المؤكد أن هناك سلسلة طويلة من التطورات الإيجابية التي بدأت برعاية القائمة بأعمال المبعوث الأممي في ليبيا الأميركية ويليامز، إثر حالة التوازن السياسي والعسكري النسبية سابقة الذكر، التي أسفرت عن حل حكومة الوفاق التي كانت مصدر استقطاب داخلي شديد في البلاد وفي علاقات ليبيا الخارجية، وشُكلت الحكومة الحالية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، واختير محمد المنفي لرئاسة المجلس الرئاسي، وبصرف النظر عن الملابسات الكثيرة في تمثيل القوى السياسية التي اختارتها ويليامز وكانت تنحاز لقوى الإسلام السياسي، التي تسيطر عسكرياً على الأرض في طرابلس ولا يوجد أي دليل على أن وزنها السياسي يعادل نظيره العسكري، بل على العكس تشير كل الشواهد والسوابق الانتخابية بعد سقوط نظام القذافي على أنها لا تحتل مكانة سياسية مماثلة لدى الرأي العام الليبي، وبصرف النظر عن كل هذا فقد تشكلت هذه الحكومة بقبول صريح من الأطراف المتصارعة كلها تقريباً، وبقبول دولي وإقليمي واسع، وواصلت بتحرك داخلي وخارجي ربما لم يستثن طرفاً مؤثراً في الداخل والخارج معاً، وهذا في حد ذاته تطور إيجابي لم تعرفه أي حكومة ليبية سابقة بعد الثورة، وبشكل خاص بالمقارنة مع حكومة الوفاق التي كانت طرفاً مضاداً للجيش الليبي منذ البداية وكذا لرئيس البرلمان عقيلة صالح، وتعثرت جهود المصالحة بين الطرفين، رغم محاولة أطراف كثيرة ذلك.

والتطور الإيجابي الآخر أن هناك عملية سياسية متواصلة للتحضير للانتخابات الليبية التي يزمع عقدها في 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وفي سبيل ذلك عقد العديد من الاجتماعات وشُكل ملتقى سياسي جمع الأطراف الليبية وإن كان بنفس خلل وعدم وضوح معايير التمثيل، وتتواصل هذه المحاولات وتتركز على عدة أبعاد أهمها القاعدة الدستورية التي ستتم على أساسها الانتخابات وتدور حول أسئلة جوهرية وهي الانتخابات أولاً أم الدستور؟ وكذا كيفية انتخاب رئيس الجمهورية، أيكون ذلك بالاقتراع المباشر أم عن طريق مجلس النواب؟ وكان يفترض أن يُعقد اجتماع افتراضي للجنة التوافقات التي تشكلت من ملتقى الحوار السياسي ولكنها اصطدمت بالأسئلة والقضايا الصعبة وأُجلت إلى ما بعد عيد الأضحى.

التحديات الحقيقية

دوماً تدور الصعوبات حول عناوين تخفي إشكالية التسوية في ليبيا وهشاشتها حتى الآن، فالأسئلة السابقة الذكر التي يتعطل حولها حوار الانتخابات تتمحور في جزء كبير منها حول ترشح العسكريين، وترشح القائد العسكري خليفة حفتر بشكل محدد، وأصبحت التفاعلات من الصراحة بمكان أن الأمر تفجر للسطح واضحاً، مع إصرار عدد من قيادات الإسلام السياسي على ضرورة استبعاد حفتر إلى حد تفصيل ترتيبات تسميه بوضوح كامل، وهذا الخلاف في ذاته يبدو كافياً لتدمير العملية السياسية كلها، بصرف النظر عن تقييم الرجل، فمن الواضح أنه رغم الاتهامات الكثيرة ضده ووجود أطراف داخلية وخارجية عديدة لا تفضل وجوده، فإن خصومه الداخليين يخشون احتمالات فوزه في انتخابات يعلمون أنها ستكون مراقبة دولياً، وهم بالأساس لا يثقون في قوة حججهم لإفشال حملته الانتخابية، ولا في قوتهم الانتخابية والسياسية لإنهاء ظاهرة حفتر التي تحتاج فقط إلى قيادة قوية ومقنعة شعبياً من أي من المعسكرين المتصارعين، ولا يدرون أنهم بتركيزهم عليه يضفون عليه مزيداً من القوة والمكانة، ربما بشكل مبالغ فيه.

ومن ناحية أخرى يتبدى التحدي الرئيس، وهو أنه على الرغم من نجاح العملية السياسية في وقف العنف وبدء تفاعلات صحية ولقاءات في البلاد، فإن هذه العملية في كل مستوياتها حتى الآن منذ عملية "برلين 1" ثم اجتماع برلين الثاني لم تضع خطة متكاملة وآليات محددة للتعامل مع ظاهرة المرتزقة الأجانب والوجود العسكري التركي، ولا كيفية التعامل مع الميليشيات المسلحة والسلاح غير الشرعي الممثل في ملايين من قطع السلاح الثقيلة والخفيفة التي حصلت عليها سواء بالتهريب أو بالاستيلاء على أسلحة كانت ملكاً للجيش الليبي خلال سنوات الانهيار أو حتى خلال المعارك الأخيرة، وعلى الرغم من أنه يمكن القول إن هناك لغة خطاب إيجابية أخيراً بخاصة من جانب مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة وأغلب الأطراف الدولية فيما يتعلق بخروج المرتزقة الأجانب وإنهاء حمل السلاح خارج الدولة، كما توجد تهديدات بفرض عقوبات ضد من يصر على تعويق العملية السلمية، فإنه لم تُفرض هذه العقوبات حتى الآن، ولم تُتخذ قرارات محددة، وعلى الرغم من وجود معلومات حول انسحابات (تركية – روسية) محدودة لبعض المرتزقة التابعين لهم، فإن تركيا لم تتخلَّ عن إصرارها العلني على البقاء العسكري بحجة اتفاقيتها مع حكومة الوفاق التي انتهى وجودها، على الرغم من عدم استناد هذه الاتفاقية إلى أسس قانونية وشرعية كما سبق لنا ولغيرنا الحديث عنها، كما أن حكومة الدبيبة الحالية ووزيرة خارجيتها نجلاء المنقوش، دعتا صراحة إلى خروج كل القوات الأجنبية، وعلى الرغم من كل هذا فإن هناك جموداً ملحوظاً في هذا الملف، وهو ما يشكل أهم أبعاد التحديات الحقيقية لفرص الاستقرار والتسوية الحقيقية في ليبيا، فمع كل التحسن في المشهد سيظل الانفراج الحقيقي رهناً بترتيبات عملية للتعامل مع هذه المعضلة.

 

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى للكاتب





كاريكاتير

إستطلاعات الرأي