الرجل الذي هزم اليابان
2020-01-01
سمير عطا الله
سمير عطا الله

هناك معالم في التقاليد اليابانية لا وجود لها في أي حضارة أخرى. فالإمبراطور هو «الحاكم السماوي» والمقاتل هو «الكاميكاز»، أي أن الطيار لا يقصف أعداءه، بل ينزل عليهم بطائرته، والمهزوم يموت بالـ«هاراكيري» أي يبقر بطنه بالسيف وهو يصرخ ممجداً الشمس وإله الشمس وحضارة اليابان. يجب أن نضيف إلى هذه النقاط الحضارية، سابقة جديدة في السعة اليابانية: منع المتّهم كارلوس غصن، بعد الإفراج عنه بكفالة، من مخاطبة زوجته إلا بواسطة الفيديو. ويُذكر هنا أن أعتى السجون الأميركية تسمح لأعتى السجناء، بمقابلة زوجاتهم. بشراً لا روبوتات. والمتّهم كارلوس غصن هو اللبناني الذي أحيا صناعة السيارات اليابانية من الخراب والإفلاس. وهو الذي عثر لليابانيين على 400 ألف فرصة عمل.

وهو الذي دمج الشركات العملاقة لإنقاذ الصناعة. وبالتالي هو من أعاد الحيوية للاقتصاد الياباني المتعثر. يومها قيل وكُتب أن اليابان لن تنسى ما قدّمه لها، ويومها كتبت أن اليابان، بنوعية حضارتها ورثاث تقاليدها وصنميتها وأوثانها، لن تغفر «للغريب» أنّه تفوّق على عبدة الإمبراطور. فالتقاليد اليابانية تعتبر «الغريب» طارئاً ومعتدياً. ولذلك كانت حروبها ضدّ جيرانها في الصين وكوريا، الأكثر توحّشاً في التاريخ.
التهم الموجّهة إلى كارلوس غصن، تُهَم مخالفات مالية لم تثبت بعد. ومع ذلك، عومل هذا الياباني الفخري مثل قاتل أو مثل معتدٍ أشعل النار في ثوب الإمبراطور. وُضع في زنزانة ليس فيها كتاب ولا كرسي ولا ضوء. ومُنع من رؤية زوجته وأبنائه أو الاتصال بهم. وحُرم في الأيام الأولى من توكيل المحامي الذي يريد. لست أدافع عن رجل حوكم وأُدين، بل عن متّهم بمخالفات مالية وعن حقوقه المدنية بموجب أي قانون من قوانين الأرض، إلا قانون الـ«هاراكيري» والـ«كاميكاز».

لذلك استقبِل فرار غصن من المعاملة اليابانية بالعطف حول العالم. إنه ذلك الرمز الصناعي التاريخي الذي غيّر قواعد الإنتاج وأوجد آلاف الوظائف لعمّال وموظّفي اليابان وفرنسا. ومن المعيب إحالة مثل هذا الرجل على الفضيحة والفظاظة وحضارة الـ«كاميكاز» بدل البحث عن صيغة وسطية لتسوية مخالفات – إذا ثبتت – يمكن تسويتها في أي بلد كان، بموجب القانون والأعراف والعدل، وخصوصاً بموجب الشعور بالوفاء والتقدير والمبادلة.
تطالب الشمس اليابانية كارلوس غصن ببضعة ملايين. ومنذ توقيفه، خسرت شركة «نيسان» أكثر من مليار دولار. وتراجعت شركة «رينو» في فرنسا. ولم يستطع مكايدوه أن يحققوا شيئاً سوى حصاد الحسد. سوف يتحدّث كارلوس غصن قريباً ويروي تفاصيل ما حدث. الرجل الذي هزم اليابان ثلاث مرّات: يوم أنقذ صناعتها، ويوم هزمها قضاؤها، ويوم استطاع «الفرار» من أقوى قبضة تكنولوجية في العالم.

*كاتب وصحافيّ لبناني، عمل في كل من صحيفة النهار
ومجلتي الاسبوع العربي والصياد اللبنانية وصحيفة الأنباء الكويتية.



مقالات أخرى للكاتب

  • ما بعد غزة كما ما بعد السويس
  • سلام دون انتصار
  • اسمها يعني "المنطقة الحدودية"





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي