لعنة الموهبة
2020-12-29
 بروين حبيب
بروين حبيب

تنظر خادمة الفندق إلى غوغان المتسخ، المنحني على لوحته، المنهمك في رسم باقة أزهار أمامه، وتقول له ساخرة: «لماذا ترسم الأزهار؟ إنّها أجمل في المزهرية» يهزُّ رأسه موافقا، ويضيف: «نعم إنّها جميلة ولكنها بعد أيام ستذبل، ويذبل جمالها، وستتخلصين منها، لكن أزهار لوحتي أبدية»، لم تقتنع الخادمة البسيطة بمقولة الرّسام البائس، الذي بدا لها في حالة مزرية، وفي حاجة إلى من يشفق عليه.

لا أحد فهم عبقريته في الحقيقة، زوجته «مات» جعلته يذوق معها الجحيم، بسبب قلّة موارده المادية، وتجويعه لأبنائه الخمسة. حرمته من رؤيتهم باستثناء ابنه إميل الذي كان يراه متى سنحت له الفرصة.

كان الرسم بالنسبة له عشقا إلهيا، يسمو به إلى حيث يرى الله، في ما ذلك المفهوم بدا أقرب لمفهوم الجنون في نظر الأقربين إليه. اعتقد بشكل جازم أن بذرة الجنون تلك ورثها من جدّته، وقد رعتها والدته بشكل ما، لأن ما حصل عليه «هديّة» إلهية لا يمكن لأيٍّ كان أن يحصل عليها.

هل كانت تلك الموهبة نعمة أم نقمة عليه؟ لقد عاش في نظره الحياة التي استحقها، ولكن مع هذا ظلّ موضوع إشفاق أشخاص عايشوه عن قرب. اختلطت مشاعره عليه، جرفته مشاعر غريبة نحو صبايا أقل من خمسة عشر عاما، رسمهن، وأغرم ببعضهن، وبلغ أن هام بإحداهن حد المرض.

وصف بالمتوحش، واللاإنساني، وبلغ ببعضهم أن وصفه بالشيطان. تقرُّ زوجته ذلك. مع أنها وصفت بقطعة الثلج، «الدانماركية الباردة» السيدة مات صوفي غاد، التي لم يتوقف عن مراسلتها رغم انفصالهما. عاش بعيدا عن دفء العائلة، لكن حياته لم تخلُ أبدا من الجنس، الرسم والجنس كانا شيئا واحدا بالنسبة لغوغان، تماما مثل بيكاسو الذي لم يستطع أن يخلص لامرأة في حياته، ولكنه قال :»أرتب الأشياء حسب غرامياتي» وهذا ما حدث فعلا خلال حياته، تبعثر بين النّساء، بين زوجاته، وعشيقاته، وكان يستمد عبقريته منهن، فيما يتركهن جريحات، بائسات، مخدوعات، مطعونات، أو بكل بساطة وحيدات.

لعنة الجنس والرسم مثل سلسلة من حديد، تطوّقه إلى الأبد. ولا شيء جعل نفسه العاشقة للانفلات الجنسي والعاطفي تهدأ.

رسم زوجته أولغا وعشيقته ماري تيريز متقابلتان كأنهما كفّتا ميزانه الداخلي. بعض النّقاد وصفوا مراحل حياته الفنية، حسب نسائه اللواتي عكّرن صفو مشاعره، أبهجنه وأتعسنه، وجعلنه في حالة هياج جنسي – إبداعي مستمر. هو الآخر وصف بالوحش، الذي جذب جميلات كثيرات، لكن لا جميلة منهن عاشت النهاية السعيدة التي ترويها الأسطورة.

ماتت إيفا حبيبته بمرض السل، وكادت عتمة غيابها تنهك ريشته، فأنقذه الله بحضور أولغا خوخلوفا، راقصة الباليه الساحرة، التي سارع إلى الزواج بها، لكن ثلاث سنوات كانت كافية لتجعله يصاب بالملل منها، خاصة بعد أنجبت ابنه باولو، لم تكن تلك الحياة التي أرادها، وُصِفت لوحاته في تلك الفترة بـ«العنيفة»، ألوان صارخة، وسيريالية عجيبة تسللت إليها رغم عدم انتمائه إليها.

لا شيء أنقذه من كآبات تلك الفترة غير صبية في السابعة عشرة من عمرها، جامحة، أشبه بالفاكهة الفجّة، نضجت بين يديه، غيّرت ألوانه وضربات ريشته، أدخلته في مغامرة النحت.

هكذا حلُّت عليه بركات الحظ بكل التغيرات الجميلة التي حملتها ماري تيريز معها، عكس غوغان المسكين، بيكاسو عرف الثروة، والشهرة، وقد سمحت له ظروفه الجيدة بشراء قصر قديم حوّله لمحترف.

لكن.. لعنة موهبته الخلاّقة، تقتلع من قلبه الراحة والطمأنينة التي ينشدها الإنسان العادي، يلتقي دورا، فيخون بسهولة ماري تيريز، غير زوجته أولغا التي رفضت الطلاق، رغم انفصالهما الجسدي.

يعيش بين ثلاث نساء، إلى أن تأتي الرّابعة، فرانسواز جيلو. بيكاسو مثل أي رجل شرقي، يمتعه تعدد الزوجات. لا يلتزم بقانون، ولا يستطيع أن يخلص لامرأة واحدة، ينجب أطفالا من كل علاقة، يحبهم ولكن بطريقته. فرنسواز تحمل ولديها وتغادره إلى باريس. ينفطر قلبه، لكنه بعد عدة أيام يقع في حب امرأة جديدة، جاكلين روك، في السابعة والعشرين من عمرها تفتنه، ولا شيء يمنعه من ممارسة كل جنونه معها، وقد تخطى عتبة الثمانين.

يشتري عقارات، قصورا، وفضاءات بحجم رؤاه ورغباته المتسعة. نهم مستمر للحياة، شغف لانهائي بالرسم، والنحت، وحتى الكتابة، وهي الأشياء التي أخلص لها حتى آخر يوم في حياته. وصفته فرانسواز بصاحب الشخصية الغامضة القاسية، وقد رافقتها تأثيراته السلبية فيها حتى بعد وفاته، فأنهت حياتها شنقا.

تتفق حفيدته مارينا معها في هذا الرأي، رغم اعتباره أحد أعظم رسامي القرن، وأحد شخصياته المشرقة.

اختلفت ظروف الرجلين، بين الثراء الفاحش والفقر الفاجر، بين الشهرة والتهميش، طالت حياة بيكاسو وقصرت حياة غوغان، الأول أحب الحياة وتمسك بها بقوة، والثاني نجا من محاولة انتحار، ثم مات بعدها بعدة أسابيع بمرض جنسي، نتيجة حياته الجنسية الصاخبة.

اختلفا في هذه المصائر القدرية التي يربطها الناس بالحظ، ولكن حظهما المشترك الحقيقي كان الفن التشكيلي، وتلك الموهبة التي كانت تسلبهما من كل استقرار ممكن تحقيقه في حياتهما الخاصة، إذ كان وفاؤهما للإبداع أقوى من وفائهما للعائلة، أو للمرأة الحبيبة، والعجيب أن كلاهما وُصف بالغول، أو بالوحش من أقرب المحيطين إليهما، فيما اعتبرهما العالم أجمع من أهم عظماء الفن.

لا أدري إن كنا سنفهم ذات يوم سيكولوجية المبدع، الذي يصبح حبيس موهبته، بحيث تسيطر عليه، حد فقدان السيطرة على نفسه.

يرتبط إبداع البعض بإدمان أنواع من المخدرات أو المنبهات، أو بتصرفات غريبة يصعب شرحها، بعضهم يفضل عزلة كاملة، خلوة مستمرة مع الذات، إخلاصا قاتلا لتلك الموهبة، لتطويرها والاجتهاد لإتقانها، وبلوغ مستوى مثالي لإنجازها. أي قوة تلك التي تتحكم في عقله وجسده وهواجسه، حتى يصبح أسيرا لها؟

هل الموهبة نعمة أم نقمة؟ يقول البعض إن الموهبة هدية يخص بها الله بعض عباده، وهي نعمة بالتأكيد عليهم، لأنها تجعل حياتهم أسهل. أمّا الخيارات التي يقوم بها أي موهوب في حياته، فهي خيارات مرتبطة بقراراته. وعلى هذا الأساس كلٌّ مسؤول عن أفعاله، بدون استثناء للمخطئين في تقديراتهم، وخططهم، وانصياعهم لملذات معينة.

أما عن اللعنة التي تأتي مع الموهبة، فقد قيل إنها «اختراع الرومانسيين في القرن التاسع عشر، إذ كان من المغري أن يكون الشاعر ملعونا، لكنّها مجرّد بدعة»، أو لنقل موضة، وأذكر جيدا أني قرأت في مكان ما أن بيكاسو أخفى ذكاءه ومدى بذله لمجهود كبير أثناء عمله، لأن الجميع يفضل أن يعتقد أنه مصدر إلهام، فيما كشف تاريخه بعد وفاته الكثير من الأسرار، منها أنه كان يحضر للوحة الواحدة برسومات تجريبية عديدة، حتى تختمر في ذهنه ويكتمل شكلها.

صحيح لقد حصل على هدية إلهية ميّزته، لكنّه كان مثقفا، وذكيا في استثمار موهبته، كما أتقن فن التّرويج لنفسه، ولعلّ هذه النّقطة بالذات هي التي كانت مفصل الفروقات بينه وبين غوغان، على سبيل المثال لا الحصر، أو بينه وبين أي فنان آخر امتلك الموهبة، ولم يمتلك الشهرة والمال مثله.

ثمة لعنة أخرى غير هذا الإخفاق الشخصي لتسويق المبدع لنفسه، حين يشعر بأنه محاصر بتوقعات الآخرين، وبهوسهم بسحقه إن فشل في تقديم ما ينتظرونه منه.

ربما هذا هو السبب في انغماس بعضهم في ملذات جسدية كثيرة لتشتيت ذلك الضغط الواقع عليهم. والآن، لنكن واقعيين أكثر، ونتأمل التجارب النّاجحة لصناعة نجوم من لا شيء، أقصد بلا موهبة، هل يمكن صياغة المقال بطريقة مختلفة تماما، بدون الانطلاق من محطة غوغان أو بيكاسو؟

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

         "القدس العربي"

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي