النّاقــد
2020-12-07
 بروين حبيب
بروين حبيب

المتفق عليه حول الأدب من قصة وشعر ورواية، أنّه نتاج هموم وقضايا الإنسان، صحيح أنه منتوج لغوي، وهو أحد الوسائل الإبداعية النّاقلة والمعبِّرة عن حالة أو وضع معينين. لكن هذا لا يعني أن يتم فصله عن الحياة العامة للإنسان، وعزله في أماكن خاصة مثل مخابر الجامعات، ومحاولة جعله مادة تعليمية تتكئ فقط على المحتوى اللغوي.

ولأنّ الأدب كذلك، فقد ترافق ظهوره وانتشاره بمتابعات نقدية، كتقييم للأدب من باب أنه مادة إبداعية. أمّا عن إمكانية وجود أدب بدون نقد فهو أمر مستحيل، فالكاتب ناقد قبل أن تمكنه مواده الكتابية من ممارسة نقده بوسائله الجمالية، والنّاقد في كل الأحوال هو العامل الفعّال، الذي يتحكّم في كل حركة ثقافية.

لا يمكن لهذه الحركة أن تستمر وتكون نشيطة بخمول النقد، لا يمكن لأي مشهد ثقافي أن يتطوّر بدون نقد. إنّ النقد وقود لاستمرارية وتجدد المجتمعات من خلالها فنونها.

وقد نكون زمنيا لا نزال متعثرين في عصر لامارتين القائل، إن «النقد قوة العاجزين»، وهذا ليس في صالحنا أبدا، كون النقد قوة الدفع للإمام، حين لا تكون هناك عوائق على الطريق.

يمكننا اليوم أن نرى جيدا، بعد أن توضحت الصورة أمامنا، أنه لا نقد جيد في ظل فقدان الحريات، لا أدب ولا فن في ظل فقدان النّقد، إنّها متلازمة لا يمكن تفكيكها، وإنجاحها في ظــروف قمعية تكمِّم الأفواه وتغلق مجال الرؤية.

نحترس في بيئتنا ونحن نمارس «النّقد» بحماية الـ»أنا» المتبجحة فينا بعظمتها المزيفة، فنرفض أي نقد يوجّه لنا، نرفض حتى أن ننتقد أنفسنا سرا بيننا وبين أنفسنا، وكأن في الأمر إذلالا ما أو إهانة أو طعنا في هذه الذات. مع أننا نحفظ قاعدة أهم نقاد العصر إدغار موران الذي قال، إنّ التفكير النقدي يبدأ بانتقاد الذات، وإن عقل النّاقد إذا كان غير قادر على القيام بنقد النّقد فلا فائدة مرجوة منه.

نعرف كل هؤلاء الكبار من خلال مقولاتهم الحكيمة، ونحفظها عن ظهر قلب، لكن كيف لنا أن نقتلع الكبرياء الوهمي الذي يؤثر في المعنى الحقيقي للنّقد في طريقة تفكيرنا؟ وينستون تشرشل قال ذات يوم: «يمكن للنّقد أن يكون غير محبّب، لكنّه ضروري، إنّه مثل الألم لجسم الإنسان، إذ يُلفت الانتباه للخطأ»، لكننا لا نعرف إن كان هذا الإنكليزي الذكي يقصد بمقولته شخصا معينا انتقده سياسيا، أو أنّه ذهب بمقولته إلى أبعد من ذلك؟ فقد عُرف الرجل بذكائه الحاد، وسرعة بديهته، واستعماله لغة فيها من الأدب ما يكفي لجعلها ذات شمولية مميزة.

أُعتُبِر النقد مقياسا لتقييم أي نتاج إبداعي، ومنذ مطلع القرن التّاسع عشر، تم ابتكار النقد المعاصر، الذي تطوّر عابرا مراحل عديدة، بدءا بمحاولة فهم نية المؤلف، إلى دراسة الأشكال الأدبية وفق المناهج العديدة التي وصلتنا اليوم، وهي وليدة نقاشات جادة تداخلت فيها المضامين الفلسفية التي أسست لحركة النّقد.

وهكذا خرج النّقد من الجبّة الضيقة التي أُلبِست له، لم يعد يكتفي بتقييم سطحي لأي عمل أدبي، بل يذهب بعيدا في جعل تفاصيله تنطق بالأشياء الخفية فيه، لكن ما أصاب المشهد النّقدي عندنا غير ما نتخيله تماما، فالعمل الأدبي تمّ التقليل من شأنه، وهذا فيه من التناقض ما يكفي لتوجيه أصابع الاتهام للمشتغلين بالنقد، وإلاّ كيف نفسِّر انسياق الناقد خلف شعبية مؤلفين، بدون الأخذ بعين الاعتبار بكل طرائق الاستقبال ومستويات التلقّي؟

من وضعنا في هذا المأزق؟ وأدّى إلى ظهور أشخاص يدّعون أنهم كُتّاب، فتوّجت رواياتهم بجوائز كبيرة مع أنّها أقرب لمواضيع الإنشاء المدرسية، أو لمحاولات شعرية غير مكتملة؟

إن ما ينقصنا فعلا هو حرية القول، وحرية التقييم الإبداعي خارج الأسوار العاطفية الهشّة التي أصبحت تشكّل سجنا كبيرا للكاتب كما للنّاقد سواء.

في الأدب الحقيقي يقوم النّقد بتتويج الأعمال الجيدة، كمكافأة لاجتهاد أصحابها في ابتكار إضافات ذات قيمة للأدب، وهذا هو الموقف الواقعي الوحيد الذي يضعنا في مواجهة عملية ارتقاء مثمرة، بعيدا عن السقوط الذي نشهده اليوم في أغلب هذه المكافآت الباذخة، التي تُغدق على الحشو الذي لا معنى له. بعض هذه المكافآت/ الجوائز تستنجد بالأسماء المشهورة لإنقاذ سمعتها، بغضِّ النظر عن جودة أعمالها.

لقد انعكست الآيات وأصبحت الجوائز هي التي تتوّج بتلك الأسماء التي صنعت انتشارها بوسائل الإعلام والعلاقات الخاصّة، وهذا من أسوأ ما يحدث عندنا اليوم، حين يتخلّى الناقد عن وظيفته، ويخسر الأدب أهم محرّك له، للإبقاء على جوهره الجميل، واتساع جمالياته. أعتقد أننا بحاجة لإعادة إعمار البنية النقدية عندنا، بعد هذا الدمار الذي لحق بها، أوّلاً بمواجهة الانهيار الذي نعيشه، وثانيا بتحديد شروط تعريف الأدب، وثالثا وهو الأهم إن كانت وظيفة النّاقد مزعجة لهذا الحد، فهل تختلف «المنظومة الأدبية» عن أي نظام سياسي قمعي ننتقده يوميا ونطالب بتغييره؟

إن ما ينقصنا فعلا هو حرية القول، وحرية التقييم الإبداعي خارج الأسوار العاطفية الهشّة التي أصبحت تشكّل سجنا كبيرا للكاتب كما للنّاقد سواء. فما يُقدّم خارج المنظور النّقدي للأدب مثل اعتماد توصيفات بسيطة بعيدة عن كونها ابنة الموروث الأكاديمي طعنة خيانة في ظهر الأدب، وهزيمة تضاف لهزائمنا الكثيرة، خاصة ما لحقنا منها في هذه الحقبة.

إن الحلقة المفرغة التي وقعنا فيها هي كالتالي، يقرأ القارئ العادي من أجل متعته، فيما يقرأ الناقد قراءة نقدية ساعيا إلى التقاط مشروع الكاتب من كل جوانبه، وغالبا ما يتعيّن عليه التّخلص من أي مؤثّر خارجي قد يبعده عن الحقول الدلالية للنص، وأبعادها لأن النقد ينبع من العمل نفسه.

ما الذي يحدث عندنا بالضبط؟ يحتار النّاقد الذي يفترض أنه يمتلك عقلا نقديا بين مخالفة «قارئ المتعة» ومخالفة مقاييسه النقدية. ثمّة فخٌّ هنا يصعب الإفلات منه حين يسيطر «قارئ المتعة» هذا على الرأي العام الثقافي، فيجد النّاقد نفسه وحيدا يسبح عكس التيار.

تكبر محنة هذا النّاقد أكثر، حين تستسخفه تلك الجماهير، كما يحدث اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. تصبح هزيمته في نظره شرعية بعد أن سحقه خطاب التفاهة ورماه جانبا على هامش احتفالية غريبة لا تتناسب أبدا مع ذخيرته الفكرية. هذا ما يحدث بالضبط الآن، وبالكاد نرى نقادا بالشجاعة الكافية لمواجهة هذا السيل الهادر من التفاهة المسيطرة على المشهد.

يمكننا إلى أجل غير مسمى أن نستمر في اضمحلالنا المتسارع هذا، كما يمكننا أن نضاعف طاقاتنا لاستعادة مكانتنا كنقاد، ربما هناك إمكانيات تقارب بين النقد والفلسفة والأدب، وإنشاء علاقات فعالة تسمح بخلق نمط نشاط يعيد النّقد إلى موقعه الذي يجب أن يتواجد فيه.

ربما وجب الإقلاع من هذا الثالوث مجتمعا، باعتبار النقد أداة معرفة مثل الفلسفة، لكن بمعايير وقواعد مختلفة قليلا مدعومة بذائقة جمالية، إنه فن البحث عن المعرفة، واكتشاف الغامض مما تخفيه اللغة.

خلاصة القول النّاقد ليس حاملا للأحكام السلبية، لكننا بالطبع نفهم الخوف الذي ينتاب الأغلبية من وظيفته، إنه مقياس، يسعى دوما لمزيد من الجودة، فهو العين المتفقدّة، العارفة، وهذا هو سرّ إبعاده بطرق مخادعة وملتوية.

النّاقد في الحياة له الدور نفسه تماما، ولنتذكر ما ذكرته في بداية المقال، الأدب نتاج هموم وقضايا الإنسان، وهذا يعني أن نقد الأدب لا يتوقف عند حدوده، إنه يخترق جوارحنا، ويحرّك تلك البرك الراكدة في داخلنا، فنتفاعل مع كل شيء حولنا، راغبين في إحداث حركة ما، تجدّد مياه البركة، وتبعث فيها الحياة. عودة النّاقد لوظيفته هو كل ما ينقصنا لتصحيح مسارنا الحضاري كله.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

        "القدس العربي"

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي