حنان عقيل*
فرضت الثورات والانتفاضات العربية، التي اندلعت منذ حوالي عشر سنوات، أسئلة وإشكاليات جديدة على الفكر العربي تنبثق مما آلت إليه الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، وما شهدته بعض الدول من تدمير. هذه الفترة تقتضي التوقف لمُساءلة المُنجز الفكري العربي تجاهها. وفي هذا الصدد نجري هذا الحوار مع الباحث والروائي المصري كريم الصياد الذي تعرض لتلك الإشكاليات في كتاباته.
يتصدى الباحث والروائي كريم الصياد، مُدرس الفلسفة بجامعة القاهرة، في كتابه الصادر حديثًا “مرايا الأنا ونافذة الآخر” للإشكاليّات التي خلقها “الربيع العربي”.
وفي حديثه يتطرق الصياد إلى أثر مستجدات الواقع العربي على نزوع الكثير من الأدباء العرب لكتابة أعمال أدبية تنتمي إلى ثيمة “المدينة الفاسدة”، لاسيّما وأنه قد صدرت له رواية تنتمي إلى الثيمة.
تجديد المناهج
يؤكد الصياد في معرض حديثه عما بعد الفكر العربي أن المشاريع الفكرية العربية لم يكن لها أثر يُذكر في الثورات مقابل أفكار حقوق الإنسان وغير ذلك من الأفكار التي فرضها واقع الثورة، ما يعني ضرورة تجاوز مشروعات الفكر العربي والانطلاق من الأسئلة المُلحة التي يفرضها الواقع الراهن.
ويضيف “من أسباب ضعف أثر المشروعات الفكرية العربية ضعف علاقة المثقف بالجمهور في الدول العربية، إذا ما قورن الحال بالغرب، فالمثقف العربي شبه منعزل، ومندمج في مونولوج طويل؛ العلماني مع العلماني والإسلامي مع الإسلامي، وتفضي المحادثة الثنائية بين طرفين مختلفين عادةً إلى تكفير أو تجهيل أو تخوين، وكثيرا ما يُستعمَل الجمهور فيها كسلاح ديماغوجي لمواجهة الخصم، هذا كله يرجع إلى انخفاض مستوى التعليم وأن الجمهور لا يفهم في الحقيقة هذا ولا ذاك، لكنه ينحاز مسبقًا إلى أحدهما، عادة ما يكون طرفًا دينيًا”.
ويقول الكاتب المصري “مع انخفاض مستوى التعليم انخفضت فاعلية العلم والموضوعية، وسادت الأطروحة الدينية التقليدية والذاتية. كيف يمكن في هذا الوضع خلق حوار يسمح بإدماج الجمهور ولو جزئيًا في قضايا فلسفية على هذا القدر من العمق والتركيب؟ لهذا تحدثتُ عن الفكر العربي اللانهائي، أي الذي يشخص المشكلة الواقعية بسبب مثالي، ثم يحاول حل هذه العلة المثالية بعلاج مثالي، وهذا غير ممكن؛ ليس باستطاعة المفكر العربي أن يُحدِّث التعليم، فهذا دور المؤسسة. لهذا يجب عليه أن يعترف بحدوده، ويطالب بتغيير اجتماعي”.
من أسباب ضعف أثر المشروعات الفكرية العربية ضعف علاقة المثقف بالجمهور، فالمثقف العربي شبه منعزل |
ويوضح الصياد في كتابه أنه ثمة إشكاليات مثارة في المرحلة الراهنة، مثل سؤال الهوية والإصلاح الديني والإرهاب والتخلف، وهي إشكاليات حضرت في المشاريع الفكرية العربية على مدار القرنين بدرجة ما فيما توارت إشكاليات أخرى كانت مثارة في المشاريع الفكرية العربية.
ويلفت إلى أن إشكاليات الفكر العربي المعاصر منذ قرنين مازالت حية إلى اليوم، وبعضها لم يعد بالأهمية نفسها كسؤال الاستعمار والتحرير مثلاً، كما استجدت بعض الإشكاليات مثل ثقافة الواقع الافتراضي ومجتمع المعلومات المفتوح الذي سيكون له أثر بالغ بما لا يكاد يقاس على المدى المتوسط.
ويشير إلى أن فلسفة الواقع الافتراضي في العالم كله لا تزال في مرحلة الطفولة، فالمجتمع لم يستوعب بعد كل آثارها وهي آخذة في التبلور حاليًا.
ويقول “الفكرة إذا أردنا إنجاز فلسفة عربية معاصرة أصيلة علينا أن نستوعب المتغيرات الثقافية والاجتماعية بالسرعة المناسبة، ونضيف إلى التراث المعرفي البشري وليس المحلي فحسب؛ أي أن إنجاز فلسفة عربية لا يبدأ من الهوية بل من متابعة الظواهر الثقافية والاجتماعية المستجدة، ومعاصرتها”.
ويشدد على ضرورة الانتباه إلى الأسئلة المعاصرة، مع إعادة النظر في المناهج المستخدمة، مبينا أن المناهج لا تزال هي نفسها منذ أدونيس إلى نصر حامد أبوزيد، وأهمها منهج الحفر الأيديولوجي الذي حاول تحديد خطواته، وضرب أمثلة عديدة من أعمال أصحاب المشروعات البحثية في قراءة التراث في السنوات الخمسين الأخيرة، وأنه آن الأوان لتجاوزها فقد أدت ما عليها، على حد قوله.
الإبداع والهدم
يعتبر الصياد أن منهج الحفر الأيديولوجي كانت له نتائج مهمة، فقد كشف عن بعض الدوافع فيما وراء الأنساق والمذاهب في العلوم والفلسفة الإسلامية، لكنه في الغالب يقوم بتكييف التاريخ ليخدم أيديولوجيا الباحث، وهو ما وصفه بـ”الأيديولوجيا السلبية”، أي أن الباحث يفترض أيديولوجيا معينة لدى الخصم ويستعمل المعلومات التاريخية المنقوصة عن هذا العصر للبرهنة على ذلك، بينما يؤكد على علمية معالجته.
وهذا ما يؤدي، في رأي الصياد، إلى تزييف التاريخ والإسقاط الأيديولوجي، وهو منهج غير علمي ولا يسمح ببناء معرفة جيدة بالتاريخ وبالفلسفة في النهاية، “ما أراه بديلاً هو الدرس العلمي الممنهج للتراث الإسلامي، وهو الدرس القادر على كشف مفاهيمه وتناقضاته ومناهجه ونظرياته، ويبدأ من الألفاظ ثم المفاهيم صعودًا إلى النظرية، وفي النهاية النسق”.
ويشير إلى أنه من الأسئلة التي كانت موضع اهتمام في مشاريع الفكر العربي وما زالت حاضرة بعد تنامي تيار الإسلام السياسي ووصوله إلى الحكم أحيانا، سؤال الإصلاح الديني. وفي ظل تلك الوضعية القائمة يصير الحل العقلاني كليا صعب التحقق، ومن ثم يطرح الباحث فكرة الاستعاضة عن الأصولية الدينية بالفكر الصوفي معتبرًا إياه وسيلة لإحداث تغيير ثقافي حقيقي.
يقول الصياد “مسألة التصوف مسألة إستراتيجية بحتة، أنا لست صوفيًا، ولا أفكر بطريقة الترميز. ولكن لو خيرت بين السلفية والصوفية، كاختيار بين حزبين مثلاً، أختار الصوفية، وقد يقول قائل: ولماذا لا ندعم الفكر العلمي العقلاني؟ طبعًا ندعمه، لكننا نحتاج مرحليًا إلى مجال من حرية التعبير وعدم التكفير، بحيث يمتد هذا المجال إلى المستوى الشعبي”.
ونظرًا إلى ضعف التعليم في الكثير من الدول العربية يشدد الصياد على أن الحل العلمي العقلاني رغم كونه الأفضل بإطلاق يبدو بعيدًا جدا من الناحية الاستراتيجية حاليًا، على خلاف الحل الصوفي الذي سيبني أرضية ممكنة أولاً للحوار.
ويؤكد أنه لا توجد تحديات حقيقية تحول دون دعم الثقافة الصوفية في مصر، والأمر يتطلب قرارًا وإستراتيجية واضحة، وضرورتها الحالية مواجهة الإرهاب والتطرف والتعصب، مستدركا “لكن لن يمكن للمفكر أن يغير الواقع بفكره فقط، الفكر نصف الطريق، والعمل المدني والحزبي بقيته”.
تنشغل الأقلام العربية في مرحلة ما بعد الثورات بثيمة الديستوبيا، انطلاقا من استشعار الفقد وتحطيم التراث وتهاوي الحضارات، وهو ما يهدد بموجة من العدمية الهدامة التي لا مناص منها، لكن الباحث المصري يرى أنها “مرحلة من العدمية الخلاقة، ومن المهم عدم التوقف عندها، وأن نتجاوز القيامة إلى التكوين”.
ويُبين ذلك بقوله “الأدب مستشعر، بمعنى مؤشر على الثقافة، لأنه تفاعل حي معها، بخلاف الفلسفة التي تنتج بعد تحليل ودراسة، والرواية العربية تعبر عن مرحلة الصدمة والوعي بالانهيار الحضاري، بعد أن كان الشعر في الستينات والسبعينات يعبر عن الانهيار القومي”.
توقع الصياد مستقبلاً أن يتم تجاوز هذه المرحلة نحو حضارة عربية جديدة في العقود القادمة، المسألة هنا هي أن الإبداع لا بد أن يسبقه هدم، والخلق يجب أن يسبقه فناء، وفي العدمية المعاصرة يتحرر الإنسان من البنى المسبقة التي انهارت إبان الربيع العربي، والحرية خطوة مهمة وضرورية في حد ذاتها.
كتب الصياد رواية “نادي الانتحار” التي تنتمي إلى ثيمة الديستوبيا، موضحا أنها “ديستوبيا واقعية” تُعبرعن تحول الثورة المصرية إلى كابوس، وقد كانت هناك العديد من الدوافع لكتابته تلك الرواية، منها السياسي والأيديولوجي، ومنها دوافع شخصية حاول فيها أن يكشف كيف أن العقل قادر على التغيير الحقيقي الجارف، حتى لو لم يملك سوى نفسه.
ويؤكد أن عدم تجاوز بعض الأعمال الأدبية، لاسيما للأدباء الشباب، مرحلة الصدمة من مآلات الثورة مسألة طبيعية؛ لأن هذه المآلات لم تُحسَم بعد تاريخيًا، وليس أقل من عقد كامل من المستقبل حتى يُمكن القول بنتائج محددة للربيع العربي. ويقول “علينا أن نتفهم أن الروائيين يختلفون في معالجة الموضوع الواحد، البعض يعبر عن تفاعل مع الواقع، والبعض يحاول تقييمه، وآخرون يحاولون تقويمه، وهو ما انعكس على هذه الملاحظة”.