كان اسمُها نيليا

2021-03-11

(من سلسلة "نساء فلسطين" لـ باولا كوكس)

غدير أبو سنينة*

ماتت نيليا. بعيدةً عن أبنائها في مستشفى بالكاد يتّسع لمرضى الوباء، حيث لم يكن بإمكان أحدٍ أن يصحّح الاسم الذي استبدله طاقم المستشفى باسمها ليصبح "نبيلة"، مستبعدين أن يكون لمُسنّة فلسطينية فلّاحة ذلك الاسم الغريب.

عاشت حياتَها وهي تشعر بذنبٍ تقول إن أباها ارتكبه حين منحها اسماً أجنبياً لا صِلة له بالعربية، لغةِ القرآن الكريم. ولعلّها، رغم حنقها على اسمها، لو خُيّر لها أن تغيّره لتردّدت. فقد كان اسماً عشِقَه والدُها، بل كان اسمَ محبوبته، وكانت ابنةً بارّة.

بعد أكثر من سبعين عاماً على ولادتها، عرفت نيليا البلاد التي منحتها اسماً. وصلت نيكاراغوا. ونيكاراغوا، بالنسبة إليها، هي كوبا وكولومبيا، بل هي أميركا. لا فرق. فهي بلادٌ يتطلّب الوصول إليها قطع المحيط الأطلسي.

منذ طفولتها وهي تودّع أفراداً من عائلتها هاجروا إلى أميركا، وتستقبل آخرين. أمّا إن كانت أميركا هذه شماليّةً أو وسطى أو جنوبية، فهو أمرٌ لم يكن يُدركه والدُها حتّى وصل إلى كوبا وانتقل منها إلى كولومبيا فنيكاراغوا في عشرينيات القرن الماضي. خرج من فلسطين مع اثنين من رفقائه يتبعون الحلم الأميركي، فإذا بالحلم يأخذ شكل فتاة كوبية اسمها "نيليا"، لتظلّ حلماً "أميركيا" لم يتحقّق.

عاد إلى فلسطين خاوي اليدين من نيليا، حين رفض أهلُها تزويجها من رجل "تركيّ" من غير دينها. تعرِف زوجتُه الحكاية، ولا تمانع أن يسمّي ابنتهما الكُبرى باسم المحبوبة البعيدة. لا يهمّها إن كان الاسمُ نيليا أو فتحيّة أو فاطمة. ما يهم حقّاً هو محصول الزيتون والزيت وإطعام الدجاجات وإنجاب مزيد من الأبناء سيقصّ عليهم والدُهم حكاية نيليا ويعلّمهم أغاني الخلاسيات. يُسمّونهنّ المولاتا، العِرق الناتج عن تزاوج الأفارقة بالبيض. يتعلّم الأبناء والأحفاد أغنية "خلاسيّةٌ في هافانا، سرقت قلبي. أسافر لأراها كل أسبوعين أو ثلاثة، وأرغب في رؤيتها طوال الوقت. وحين أعود بعد أن أقبّلها قبلةً أخيرة، أحلم مرّةً ثانية بابتسامتها الربيعيّة، بمشيتها بين أشجار الموز، وبحبّها الذي يغمرني. أحلم بمحبوبتي الخلاسيّة الكوبية".

وقد ظلّ الأب يحلم بنيليا الخلاسية حتّى أيقظه جنود الاحتلال الإسرائيلي يوماً من حلمه. هاجموا بيته وبعض بيوت قريتهم من نواحي نابلس، بحثاً عن أسلحة مهرّبة، وكانت وسادةٌ تتوسّط مقاعد غرفة الجلوس مختلفة عن أخواتها، مطرّزة بيد نيليا، قد لفتت نظر جنديّ مزّقها بحثاً عن موسٍ أو مسدّس مدسوس في باطنها. لربّما كانت عينا الأب تلمعان خوفاً كلما اقترب أحدُهم منها ويصِلُ صوت خفقان قلبه إليهم. كانت الوسادة هديّةَ نيليا الكوبية له قبل افتراقهما. الكلُّ يعلم ذلك، ويعلم سبب الدموع التي تدفّقت من عينيه حين شاهد أحشاء الوسادة خارجها.

تحمل نيليا حكاية أبيها ومحبوبته معها. تُلقي باللّائمة عليه وتستغفر له. كيف لعجوزٍ، لها أبناءٌ وأحفاد، أن تُسمّى نيليا؟ تُخفي اسمها بآخَر منحَها إيّاه بِكْرُها، فتصير أمّ فلان، بل الحاجّة أم فلان، فتتناسى اسمها وتحلّ الإشكالية.

هكذا كانت توحي إليها البلاد التي وُلدت فيها، البلاد الخالية من الخلاسيّات والتي تعجز فيها نيليا عن ارتداء ثوبٍ بلون عينيها العسليّتين، خشية القيل والقال: "عجوز ترتدي ثوباً زاهياً". أضف إلى ذلك - لا بدّ أنها كانت تقول لنفسها هذا الكلام - أنّه اسمٌ كافر.

انتظرت نيليا أكثر من سبعين عاماً كي تطأ أرض الخلاسيات وترتدي ثوباً ذا ألوان زاهية، تقتصّ قماشه من متاجر أبنائها في نيكاراغوا. خجلٌ ورديٌّ يلوّن وجنتيها وهي تبرّر لمن يمتدح مظهرها أنّ اللون الفاتح لم يكن خيارها.

كلّ يوم، خلال عامين قضتهما في نيكاراغوا، عاشت نيليا حياتها كـ"نيليا". عاشت فتاةً عشرينية. تخرج مع أبنائها إلى متاجرهم صباحاً، تُجالس العمّال والناس في السوق. تتحدّث مع الجميع بعفوية، وتُهديهم مسبحاتٍ صنعتها من حبّات الزيتون. ترتاد المطاعم وتجول في مزارع القهوة وتسمع الأغاني. تقطع مسافات طويلة من مدينة إلى أخرى من دون أن تشكو تعباً أو إرهاقاً يفرضهما كِبَر السنّ. تقضي نهاية الأسبوع على شاطئ المحيط، تُشمّر قليلاً عن ثوبها الطويل وتلهو كطفلة. كلّ يوٍم خلال عامين، كانت تسمع اسمها من أهل البلاد وهم ينادونها "دونيا نيليا" (السيدة نيليا)، فتبتسم وتردّ.

 

  • كاتبة ومترجمة فلسطينية أردنية مقيمة في نيكاراغوا






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي