هل تؤدي قيود السفر لوقف انتشار الجائحة حقاً؟ أم تفرضها الحكومات لإبعاد النظر عن أخطائها؟

متابعات الامة برس:
2021-03-01

مئات آلاف العائلات أصبحت ممزقة ومهددة بسبب قرارات منع السفر لوقف تفشي جائحة كورونا، وسط تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لاتخاذ قرارات منع السفر من قبل الحكومات بهذه الطريقة التي يرى الكثيرون أنها غير علمية.

وهناك مخاوف من أن إجراءات إغلاقات كورونا، ولا سيما منع السفر، تتسم بأنها عمياء ولا تراعي الظروف الإنسانية وتبدو شدتها والافتقاد الغريب للتنسيق حتى بين أقرب الحلفاء والجيران، تعبيراً عن نزعة شعبوية تتبناها أغلب الحكومات دون منطق علمي.

هل منع السفر ضرورة من الناحية العلمية؟

بينما تفيد دراسة حول إغلاق الحدود في كوريا أثناء جائحة فيروس كورونا 2019 بأن تأثيرات جهود الاحتواء لا سيما منع السفر هذه محدودة، فإن التجربة العملية تشير إلى منع السفر أو فرض بعض القيود عليه مفيد لوقف تفشي الجائحة.

ولفترة طويلة شكَّكت منظمة الصحة العالمية في جدوى قرارات منع السفر في تقليل انتشار العدوى، وكانت هذه التشكيكات من المنظمة في الفترة التي منعت فيها العديد من الدول السفر من وإلى الصين.

وعلى الرغم من إدراكها المتزايد بأن انتقال العدوى من إنسان إلى آخر كان يحدث بالفعل، استمرت منظمة الصحة العالمية في تقديم المشورة ضد حظر السفر حتى بعد يناير/كانون الثاني 2020، حينما كانت تفاصيل صفات الفيروس قد عرفت إلى حد كبير.

والسؤال الذي تثيره شكوك المنظمة في منع السفر: أليس السفر هو الوسيلة الوحيدة لنقل الفيروس من دولة لأخرى، باعتبار أن المخالطة البشرية هي الوسيلة الرئيسية للعدوى؟

واستمر هذا الموقف لأربعة أشهر، فمع تحديث استراتيجية منظمة الصحة العالمية لفيروس كورونا في إبريل/نيسان 2020 تضمنت اقتراح قيود مناسبة ومتناسبة على السفر المحلي والدولي غير الضروري كجزء من مجموعة من التدابير نحو الهدف الشامل للسيطرة على الوباء. بحلول مايو/آيار 2020، أفاد مجلس السياحة العالمي بأن جميع الوجهات في جميع أنحاء العالم لديها الآن قيود على السفر.

والآن أصبحت كل دول العالم تتخذ إجراء منع السفر الذي سبق أن انتقدته المنظمة.

وقيود السفر لها ما يبررها بالطبع في حالة حدوث جائحة، باعتبار أن الإنسان نفسه هو وسيلة انتقال الفيروس، والأداة الأساسية للوقاية من الفيروس هي التباعد الجسدي.

والدليل على فاعلية منع السفر أن العديد من الدول التي نجحت في السيطرة على كوفيد مكونة من جزر، مثل أستراليا ونيوزيلندا وتايوان، ولم تسمح بدخول غير المواطنين.

وثبت أن إجراءات غلق الحدود، إلى جانب تتبع الاختلاط وعمليات الإغلاق في حالة الانتشار المجتمعي، استراتيجية ناجحة في هذه الدول.

وفي ضوء نجاح هذه الأمثلة، دعا عديد من خبراء الصحة إلى فرض المزيد من القيود على السفر بدلاً من تخفيفها، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

قيود السفر ما زالت مستمرة حتى مع اللقاحات.. لماذا؟

يبدو أن قيود السفر ستظل ملازمة لنا في المستقبل القريب، رغم كل هذا التقدم المشجع في عملية التطعيم. إذ أعلنت كندا مؤخراًعن تدابير أكثر تشدداً، مثل الحجر الصحي الإلزامي في الفنادق للمسافرين الذين يصلون إلى البلاد عن طريق الجو، في محاولة لمنع انتشار السلالات الجديدة لفيروس كوفيد-19.

وكان من أولى الإجراءات التي اتخذتها إدارة بايدن منع جميع أشكال السفر إلى الولايات المتحدة من البلدان التي انتشرت فيها السلالات الجديدة، التي من بينها معظم دول أوروبا والبرازيل وجنوب إفريقيا.

فالسلالات الجديدة من الفيروس أيضاً تزيد من الحاجة إلى فرض القيود الحدودية. فهي أشد نشراً للعدوى وربما أكثر فتكاً. وستُتهم البلدان بالتقصير إذا لم تتخذ إجراءات جادة لمنع دخول هذه السلالات الجديدة. وتشير أدلة علمية إلى أن حظر السفر يمكن أن يحدث فرقاً إذا فُرض مبكراً بما يكفي.

وكانت فرنسا قد حظرت في أواخر يناير/كانون الثاني جميع أشكال السفر من وإلى دول خارج أوروبا. وتُلزم بريطانيا الآن المسافرين بالتزام الحجر الصحي في الفنادق لمدة 10 أيام على نفقتهم الخاصة. وحظرت ألمانيا جميع أشكال السفر من "المناطق التي تنتشر بها سلالات مختلفة"، مثل المملكة المتحدة، وقال وزير داخلية البلاد إنه يفكر في "تقليل السفر الجوي إلى ألمانيا إلى الصفر تقريباً". بل فرضت ألمانيا ودول أخرى قيوداً على السفر الداخلي على نطاق واسع، سعياً لمنع انتشار كوفيد-19 من المناطق مرتفعة الخطورة.

المشكلة أنه ليس هناك تعاون لتقليل الخسائر البشرية

وبعد مرور عام كامل على هذه الأزمة، لم نر حتى الآن تعاوناً دولياً جاداً للحد من الكلفة البشرية لإغلاق الحدود. وشاركت منظمة Faces of Advocacy الكندية بعض قصص المتأثرين بإغلاق الحدود مع باحثين في معهد أبحاث سياسة الحدود في جامعة ويسترن واشنطن. وهذه القصص مأساوية: امرأة شابة في ولاية واشنطن الأمريكية (غير واشنطن العاصمة) مرتبطة بشخص منذ أربع سنوات يعيش في كندا؛ وتقول إن مضي ثمانية أشهر على افتراقهما "دمر صحتي النفسية بطريقة لم أكن أتخيلها"، حسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.

 واكتشفت فتاة من مقاطعة كولومبيا البريطانية الكندية بعد ثلاثة أشهر من إغلاق الحدود أنها حامل من صديقها في واشنطن؛ وبعد عدة أشهر أجهضت حملها، وحاول صديقها إقناع مسؤولي الحدود الكنديين بالسماح له بدخول الحجر الصحي حتى يتمكن من الذهاب إليها في كندا.

لكنهم قالوا له إن الاعتناء بها وتعزيتها في فقدان طفلهما ليس ضرورياً وحذروه من أنه قد يُمنع من دخول كندا لمدة عام إذا عاد ليكرر طلبه. وقال آخرون كُثُر إنهم حتى مُنعوا من السفر لرعاية مرضى أو محتضرين من أفراد أسرهم.

ويعج موقع المنظمة بقصص مؤلمة مشابهة عن أشخاص يعيشون بالقرب من الحدود لا يمكنهم رؤية الآباء أو الأبناء أو  الشركاء على الجانب الآخر خلال العام الماضي.

وتوجد الآلاف، بل الملايين من هذه القصص حول العالم. ويطال تأثير إغلاق الحدود جميع الجنسيات والطبقات الاجتماعية، مثل العاملين المهاجرين الذين لا يمكنهم العودة إلى الوظائف التي تعتمد عليها أسرهم الفقيرة؛ والمهاجرون، أغنياء  كانوا أم فقراء، الذين فرقت الحدود بينهم وبين أسرهم وأحبائهم؛ وغيرهم ممن علقوا وتحطمت أحلامهم وآمالهم. إن الكلفة هائلة وتزداد يوماً بعد آخر، من خسارة مصدر الدخل إلى ألم الانفصال العميق والأمراض النفسية. 

هجمات 11 سبتمبر/أيلول تقدم لنا الحل

وكان يمكن إدارة هذه الأزمة بشكل مختلف.

وتقترح الدراسة التي أجريت في كوريا الجنوبية حول مراعاة العوامل لتحديد ما إذا كان سيتم فرض تدابير إغلاق الحدود: منها خصائص المرض، حسن توقيت التنفيذ، مراعاة التكاليف الاجتماعية والاقتصادية.

فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، جلست الحكومتان الأمريكية والكندية من فورهما للتفاوض عن قواعد جديدة لتنظيم الحدود لتضييق الخناق على الإرهابيين والمجرمين وفي الوقت نفسه التقليل قدر الإمكان من تعطيل حركة التجارة والسفر. وتفاوضت الحكومة الأمريكية على بروتوكولات مماثلة بشكل منفصل مع الاتحاد الأوروبي واليابان والعديد من البلدان الأخرى لزيادة سلامة السفر والتجارة.

أما هذه المرة، فلم نر هذا التعاون. وأغلقت دول العالم حدودها دون تشاور يذكر مع جيرانها. فمنذ مارس/آذار الماضي، اكتفت كندا والولايات المتحدة بتمديد إغلاق الحدود شهرياً، دون أي إشارة إلى الظروف التي قد تخففان فيها هذه الضوابط. ومن جانبها أغلقت بلدان الاتحاد الأوروبي- الذي جعل السفر بُحرِية أحد الحقوق الأساسية لمواطنيه، والذي ألغت معظم بلدانه ضوابط الحدود الداخلية- الحدود بشكل انفرادي أوائل العام الماضي، بما في ذلك الحدود بين بعضها البعض.

وعاد التعاون الأوروبي في وقت لاحق من عام 2020، على أن بلدان الاتحاد بدأت تغلق حدودها الآن من جديد. ورغم تراجع أعداد الحالات بشكل كبير في كندا والولايات المتحدة، فما زالت الحدود مغلقة في ظل ارتفاع مجموع الحالات عن الموجة الأولى العام الماضي.

ففي أي مرحلة قد تتراجع الأرقام بما يكفي لتخفيف قيود السفر؟ وإذا كان لدى الحكومات خطة، فهي لم تعلنها لأي شخص.

لا مبرر لبعض الإجراءات التي تبدو متناقضة

وأدى غياب التعاون بين الحكومات إلى ظهور استراتيجيات متعارضة بالكامل لا معنى لها من المنظور الصحي. إذ أغلقت الولايات المتحدة الحدود البرية أمام جميع المسافرين باستثناء العاملين في مجال الخدمات الأساسية مثل سائقي الشاحنات وعدد محدود من العاملين في مجال الرعاية الصحية.

ولكن لأسباب يتعذر تفسيرها، لم تطبق واشنطن النظام نفسه في السفر الجوي. فلا يستطيع المواطن الكندي الذي يعيش في فانكوفر قيادة سيارته جنوباً إلى سياتل، ولكن يُسمح له بالصعود بالطائرة والسفر جواً.

فأيهما أكثر خطورة: القيادة في سيارة خاصة أم الاختلاط بغرباء لساعات في المطارات والطائرات؟ وعلى عكس ما يحدث في كندا، لا يُلزَم المسافر جواً بالعزل بعد وصوله.

وتوجد أيضاً استثناءات شاملة لأي شيء متعلق بالتجارة عبر الحدود، ربما رغبة في تجنب المزيد من تعطيل سلاسل التوريد الهشة، أو لقوة مصالح الشركات. وكان نصف ما يقرب من 10 ملايين مرة دخول إلى كندا منذ إغلاق الحدود في مارس/آذار عام 2020 عن طريق سائقي الشاحنات الذين يدخلون عن طريق البر. ويُعفى سائقو الشاحنات من جميع متطلبات العزل والفحص التي يخضع لها الوافدون الآخرون إلى كندا.

مراعاة الأزمات العائلية

على أقل تقدير، لا بد من فرض إجراءات رسمية لمنح استثناءات لاعتبارات الرأفة والعلاقات العائلية بدلاً من القيود الجامدة الشاملة، حسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.

وتدعو مقالة في مدونة Ejil Talk التابعة للدورية الأوروبية للقانون إلى تحقيق تفاهمات أفضل بشأن إغلاق الحدود، مشيرة إلى أن المرونة الكافية أمر بالغ الأهمية لتمكين سرعة الاستجابة التي ستساعد فرادى الدول على تحقيق النتائج الصحية الإيجابية التي يسعى إليها حكامها.

ويتعين على الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن تتبنى نهج كندا الشامل في تعاملها مع العائلات والأحباء، ومن الضروري أن تحذو الدول الأخرى حذوها.

ففي الاتحاد الأوروبي لا تقدم سوى أقل من نصف دول شنغن إعفاءات للأزواج الذين يحملون جنسيات مختلفة، وهذه الإعفاءات تنطبق فقط على الأزواج أو الزوجات من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. ويتعين على الساسة الامتناع عن فرض إجراءات قاسية مثل الحجر الصحي الإلزامي عالي التكلفة في الفنادق، الذي قد يردع معظم المسافرين عرضاً ولكنه سيضر بمن لديهم حاجة ملحة للسفر.

ويتعين على الحكومات أيضاً أن تبدأ التعاون فيما بينها للتوصل إلى خطط تنظم إعادة الفتح حسب ما تسمح به الظروف بدلاً من ترك مواطنيها حائرين من شهر لآخر. وكان مفوض الجمارك وحماية الحدود الأمريكي السابق روبرت بونر، الذي ساهم بدور كبير في وضع ضوابط الحدود بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قد دعا إلى تنسيق دولي مماثل بين الحكومات لاستغلال الحدود بذكاء في إطار استراتيجية لمكافحة الجائحة. ومن العناصر الأساسية في هذه الاستراتيجية إرساء معايير من شأنها السماح بإعادة الفتح تدريجياً وتطعيم المزيد من الناس والسيطرة على الجائحة.

كراهية الأجانب

هناك قلق من أن إغلاق الحدود يمكن أن يخفي التمييز أو يشجع على كراهية الأجانب.

وقد نحرز تقدماً في السيطرة على الجائحة في وقت لاحق من هذا العام، أو قد تحولها سلالات جديدة أخرى إلى معركة تدوم لسنوات عدة. وحان الوقت لأن يتخلى الساسة عن خطابهم الرخيص حول الإجراءات الصارمة على الحدود.

فبدلاً من كسب التأييد عن طريق إبعاد الأجانب- على قادة الدول أن يشرعوا في تنظيم حدودهم بطريقة أكثر ذكاءً وإنسانية للتعامل مع التهديد طويل المدى. ويتعين عليهم التعاون بشكل وثيق مع الحكومات الأخرى، وتقييد السفر عند الضرورة وتقليل الكلفة البشرية قدر الإمكان.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي