يانيس ريتسوس: الشعر لا ينتهي ويعيش من خلال الآخرين

2021-02-15

الشاعر اليوناني الراحل يانيس ريتسوسترجمة وتقديم : إبراهيم قازو*

احتفظ الشاعر اليوناني الراحل يانيس ريتسوس من سنواته المضطربة بتحفظه الكبير من آلة التسجيل، «هذه الآلة المستعملة أثناء الاستنطاق في المكاتب العسكرية، والتي بفضلها يحاول رجال الأمن تأويل كل كلمة، وكل جملة بهدف الإمساك بتهمة ضده.
ومن هناك الحصول على إدانته»، لذلك يفضل اعتبار اللقاء محادثة بدلا من اعتباره مقابلة. وفي نهاية نقاش حول ميزات التصوير يقبل بأخذ صور لبعض لحظات المحادثة.. «الشاعر يشتغل في الصمت ـ هذه هي حالته الطبيعية ـ وليس حينما يتكلم» يقول ريتسوس.
■ لماذا تكتب، ولمن؟
أسباب الكتابة ليست محسوسة. هناك عدة عوامل غامضة تتدخل في إبداع عمل فني. لا نعرف إلى أي حد هي بيولوجية، وراثية، عائلية، دينية. يقال إن الشرط الأول لأي فنان هو الموهبة. لكن ما هي الموهبة؟ ما مصدرها؟ من الطبيعة، العائلة، التربية، المجتمع؟ إنها مزيج من كل هذه العوامل التي تؤثر في الإبداع، وعلى ضرورة الإبداع.
■ وهل هذه الضرورة كذلك غامضة بدورها؟
هناك مادة للتأويل، لنسمي ذلك ضرورة تجاوز حاجز العزلة، ضرورة التواصل، فحتى قبل وجود الكلام المكتوب، وجد الرسم والإشارة والرقص. فالرسومات داخل الكهوف تبين كيف يصطاد الإنسان الحيوانات، وكيف يحتمي، فالحاجة الطبيعية الأصيلة تستثمر في شكل جمالي في اللحظة التي تستقر فيها على لوحة، في كلام، في مسرح. فالتجربة تنتقل أيضا من جيل إلى جيل. وضرورة التواصل هذه، هي بالتحديد مدّ الذات نحو الموضوع. فالفنان، ربما، ليس سوى موضوع مُذَوًّت، أو ذات وموضوع في الوقت نفسه. لكن، وكما أن المعرفة الجمالية لكل ما تحول إلى فن غير قابلة للتحديد، فالجمالي يبقى منطقة شاسعة وغير محددة، كما الحياة تماما.
■ لقد ساهمت الأغنية في الانتشار الشعبي لشعرك، هل كان ذلك اتفاقا؟
يجب أن لا ننسى أنه في الماضي كان الشعر في الغرب كما في الشرق، مرفوقا دائما بالموسيقى وبالرقص، لنفكر مثلا في المسرح القديم الذي ينضد الشعر، الرقص، الغناء، الموسيقى، الإخراج، الفضاء، التلوين، والهندسة في مجموعة متعادلة، ثم جاء وقت القطيعة والاختصاص، ليس فقط في مجال الفن، ولكن في مجال العلم أيضا. وهذا لا يمنع الاختصاصات المختلفة من الانتماء لجذع مشترك، يحتاج بعضها بعضا، وسيكتشف الفنانون ـ على ما أظن ـ مرة أخرى ضرورة تعانق وتناغم الفنون. لقد كنت ـ رغم ذلك ـ مندهشا لأن ميكيس ثيودوراكيس كتب موسيقى (رثاء الموتى Epitaphios) سنة 1957 أي بعد عشرين سنة من إبداع المجموعة الشعرية. لقد كنت متأثرا بالموسيقى ومسرورا جدا بمعرفة أنه بهذه الوسيلة سيصل شعري إلى الشعب.
فعوض إجبار الناس على الذهاب إلى مكتبة ما، يذهب الشعر عند الناس البسطاء في شكل موسيقى، بينما هم يأكلون، يحلمون، يعشقون. إن الشعر يضطلع بدورين في آن واحد: دور جمالي ودور تربوي.
■ تقوم بساطة كتابتك أيضا على الرغبة في الوصول إلى الكثير من الناس؟
إن البعض يقول بأن شعري صعب جدا، بالنسبة لي، الكتابة البسيطة هي الأكثر تطلبا. فالشعر ينطلق من التجريد ليصل إلى الواقعي. فأنا أنتروبوس anthropos أي كائن بشري، لكن ذلك بالنسبة لي يعني سينانتروبوس synanthropos، أي كائن ملتزم في الهوية مع جميع كائنات العالم الأخرى. ففي ما وراء الاختلافات، الإكراهات، الحواجز، الأحقاد المصطنعة، يبحث الشاعر )الفنان) عن استكشاف الروابط السرية بين البشر، إن أي تحقيق فني وجمالي للأخوة الكونية هو تأكيد للحياة. الشاعر يقول نعم للحياة وذلك استجابة عميقة لكل جمال. باسم الجمال نناضل من أجل تطوير العالم.
■ أفكارك السياسية تظهر بوضوح في شعرك، هل لذلك تأثير سلبي في تقدير عملك الإبداعي؟
نعم ولا. أظن أن معظم قرائي ينظرون إليّ كمناضل، إنسان مناضل من أجل مصالح الشعب اليوناني، ومن أجل مصالح المستغلين، والمضطهدين في العالم، لأني تحدثت في عملي كذلك عن فيتنام، السلفادور، بلغاريا، ورومانيا.
واعتقالي سنة 1948 زاد من اهتمام الناس بشعري، فمعظم المعجبين بي لا يعرفون ما إذا كانوا يحبون الشاعر أم الإنسان؟
يعني الذي كان حاضرا في المظاهرات، الذي عذب ونفي، لكن حقيقة، لقد استقبلت بمحبة منذ خطواتي الأدبية الأولى.
■منعت لزمن طويل من النشر؟
صحيح، فعلى مدى عشرات السنين كان اسمي ممنوعا في اليونان، بينما في الوقت نفسه، كانت هناك إصدارات لقصائدي في فرنسا وإنكلترا وألمانيا.
■ بدون أن تكون على علم بذلك؟
لم تكن لديّ أي فكرة، فقد وصلتني هذه الكتب بعد عشرين سنة من إصدارها. فقصيدتي الأطول في 140 صفحة الموسومة بـ «أحياء العالم Les quartiers du monde « نشرت في ألبانيا سنة 1962 لم تكن لدي ولا نسخة واحدة منها إلا سنة 1982!
■ بسبب أفكارك السياسية؟
طبعا. ففي هذه الأثناء كان هناك تحيز ضد شعراء آخرين، لكن ليست للأسباب نفسها، مثل إمبيريكوس وإيغونوبولوس اللذين لم يكن لهما في بداياتهما أي تقدير.
■ وهل كان ذلك نتيجة الجهل بالتيار السيريالي؟
□ صحيح. فلم يكن في اليونان أي تأثير للحركة المستقبلية، ولا الدادا، لم يكن لدينا كذلك رسامون تكعيبيون، وفجأة جاء إمبيريكوس وفاجأ القراء. الناس يضحكون. لم يفهموا شيئا. لقد كان شعرا مختلفا كليا.
■ هل تمثل جائزة لينين قمة مسارك؟
لقد حصلت على عدة جوائز حتى الآن. والجائزة تمنحني الإحساس بالوجود خارج الحواجز واللغات، إنها تقوي أيضا اعتقادي الراسخ بوجود إمكانية التجاور والتعاون. هذه الجائزة ليست إذن موضوع مجد بالنسبة لي.
■ في عدد من ترجمات أعمالك، نعثر على طبعات تركية. هل يعرفون هناك أنك كنت صديق الشاعر ناظم حكمت؟
لقد ترجم عملي إلى اللغة التركية في ظل ديكتاتورية أورن Euren! حينئذ كان الشاعر ناظم حكمت ممنوعا. ولم يعد كذلك الآن. الديكتاتوريون أذكياء، فقد فهموا أنهم بمنعهم شاعرا عظيما سيثيرون نزاعات عبر العالم، ما يجعل منه بطلا. وإذا وضعوا مئة نقابي في السجن، لا أحد يحتج. يصعب عليّ أن أعرف ما إذا كان عمل ما يرتبط بالقيمة أو الأسطورة، التي تحيط بمبدعه. لا أظن أن كل هذه الترجمات، وكل هذه الجوائز ناجمة عن قيمة عملي الإبداعي فقط، فأنا أحب أن يُقيَّم عملي يوما ما، مستقلا عن الأسطورة المرتبطة بشخصيتي.
■ وهل يمكن لشاعر ما أن يعيش من عمله الإبداعي؟
في بلدان أوروبا الشرقية يعيش الشعراء من إبداعاتهم. أما أنا فقد اشتغلت حتى سن السابعة والخمسين، ومنذ ذلك الحين، يمكن أن أقول إني أعيش من شعري، لكن يجب الأخذ بالاعتبار أن مجموعة إبيتافيوس Epitaphios صدرت منها 36 طبعة، ومجموعة الهيلينية La Grécité 32 طبعة، ومجموعة سوناتا في ضوء القمر La sonate au claire de lune 29 طبعة.
■ هل الدولة تعتني بشعرائها هنا؟
بعض الفتات، فجوائز الدولة أو الأكاديمية ـ بالكاد ـ تسمح بالعيش شهرا واحدا.
■ وهل تظن أن عملك الشعري قد انتهى؟
ما دام الشعر يتماهى مع معنى الحياة والتاريخ، فهو لانهائي. إنه يستمر من خلال عمل شعراء آخرين، وبهذا المعنى فالشعر لا نهاية له.

المصدر: Nuit Blanche (Le Magazine du livre) Numéro 27 Mars/Avril 1987.

*شاعر ومترجم من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي