نصف قرن من الواقعية السحرية

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-05-30
د. حامد أبوأحمد يتناول الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتنيية ويتحدث عن مترجمي ألف ليلة وليلة في كتاب جديد.

حمادة هزاع

بجهد كبير، وتحليل عميق، ودقة في التناول، وقدرة على المقارنة، تتسم مؤلفات د. حامد أبوأحمد، خاصة تلك التي تتناول أدب أسبانيا وأميركا اللاتينية، مثل "رائد الشعر الإسباني الحديث خوان رامون خمينيز"، و"دراسات نقدية في الأدبين العربي والإسباني"، و" قراءات في أدب إسبانيا وأميركا اللاتينية، و"في الأدب المقارن"، وأخيرا كتابه الجديد "في الواقعية السحرية" الذي سنقوم بقراءته فيما يلي.


في الواقعية السحرية
صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في مائتين وخمس وثمانين صفحة من القطع المتوسط، ويضم بين دفتيه مقدمة وسبع دراسات وملحقا يضم قصة ومقالة للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. ودارت هذه الدراسات السبع حول ذلك التيار الذي ملأ العالم شهرة، وهو تيار "الواقعية السحرية"، فتناولت: الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، وروايتي "خريف البطريرك"، و"عن الحب وشياطين أخرى" لجارثيا ماركيز، وعندما يكتب ماريو بارجس يوسا عن جابرييل جارثيا ماركيز، وميجل آنخل إستورياس وروايته "السيد الرئيس"، ورحلة وحوار مع ماريو بارجس يوسا، واعترافات الكاتب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز، ويضم الملحق قصة "الآخر"، ومترجمو ألف ليلة وليلة.

وبنظرة سريعة على عناوين هذه الدراسات نجد أن أربع دراسات منها دارت حول الأديب العالمي ماركيز، وواحدة تناولت الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، ولعل هذا هو ما دفع د. علاء عبدالهادي، لأن يقول - في مقال له نشر بجريدة الأهرام المصرية في 12 أبريل/نيسان 2009- "وليس من شك في أن تغيير عنوان الكتاب إلى (الواقعية السحرية في رواية أميركا اللاتينية‏:‏ جابرييل جارثيا ماركيز نموذجا)‏,‏ علي سبيل المثال سيكون أدخل في موضوع الكتاب‏,‏ فما هو عن جبراييل جارثيا ماركيز يحتل ما يزيد علي ثلثي الكتاب‏,‏ ذلك دون ثلاث دراسات جاءت انتقائية‏,‏ ولا تغطي علي نحو كاف قوس أدب الواقعية السحرية الروائي‏,‏ فقد عالج الكتاب الواقعية السحرية عند ماركيز باسترسال‏,‏ وعلي نحو خضع إلى معرفة الكاتب بموضوعه‏,‏ أكثر مما خضع إلى اقتضاء منهجي يتحرى الكاتب من خلاله تطور المفهوم استنادا إلى أعمال الآخرين علي المستوى التاريخي‏,‏ وذلك مراعاة لما يتطلبه التناول الموضوعي من جهة‏,‏ وارتباطا بمفهوم النظرة العامة الدالة على امتداد مفهوم الواقعية السحرية‏,‏ واتساعه عن الرواية الأسبانوأميركية من جهة أخرى."‏

وأنا أتفق إلى حد كبير مع ما ذهب إليه د. علاء عبدالهادي، وأرى أن المؤلف لم يرد من كتابه هذا أن يكون تنظيرا بحتا، بقدر اهتمامه بأن يكون مدخلا تطبيقيا، يمكن من خلاله فيما بعد التنظير للواقعية السحرية.

أما عن مقدمة الكتاب ودراساته السبع وما ألحق بها، فقد جاءت على النحو التالي:

قرن من الإبداع المتواصل في أميركا اللاتينية:

في مقدمة الكتاب يقدم لنا المؤلف إطلالة على المشهد الأدبي والثقافي في أميركا اللاتينية خلال قرن كامل موضحا مجالات الشعر والرواية والقصة القصيرة، فيتحدث عن رائد حركة الحداثة في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية في نهايات القرن العشرين، وهو الشاعر النيكاراجوي روين داريو، الذي نقل إلى الشعر الإسباني في نهاية القرن الماضي روح قرن كامل من الشعر الفرنسي، وحول الشعر إلى شيء يزيد على كونه اتحادا شعوريا داخل قوالب مصنوعة سلفا.

ولم يكن روين داريو هو الشاعر الأميركي اللاتيني الوحيد الذي مارس تأثيرا قويا على الشعر الإسباني في القرن العشرين، بل ظهر شعراء كبار آخرون من هذه القارة لعبوا أدوارا كبيرة في الحركات الطليعية التي ظهرت خلال العقد الثاني من القرن المذكور كالماورائية والمستقبلية والدادائية والابتداعية مثل بيثينتي أويدوبرو، وقيصر باييخو وسواهما.

ولم يكن الشعر هو المجال الوحيد الذي حصل فيه كتاب أميركا اللاتينية على مكانة متميزة، بل شهدت الأجناس الأدبية الأخرى نهضة قوية، وخاصة الرواية التي تبرز فيها كتاب من جيل الريادة مثل ميجيل آنخل أستورياس كاتب جواتيمالا وصاحب رواية "رجال من الذرة" 1949، وهناك أيضا أليخو كاربنتيير من كوبا صاحب الرواية المدهشة "مملكة هذا العالم" 1949.

ثم يرصد المؤلف - في هذه المقدمة- أربع حركات تجديدية بارزة في الرواية في أميركا اللاتينية وهي: 1- الواقعية الاجتماعية، التي تأثرت إلى حد ما بكتاب من أمثال إميل زولا، وبلزاك، وكلارين وجالدوس، ومن أبرز ممثليها البيرواني خوسيه ماريا أرجيداس، والمكسيكي كارولس فوينتيس والبيرواني أيضاً ماريو بارجس يوسا. 2- الواقعية النفسية، وهي التي تستخدم تقنيات مرتبطة بالحلم، وتعبر عن اللاشعور، وتيار الوعي، والخيال الجامح، واستبطان الذات، ومن أبرز ممثلي هذا التيار أدولفو بيوكاساريس، وخوسيه روبن ورميرو، وبدرو برادو، وإدوارد باريوس. 3- الواقعية السحرية، ويمثلها جابرييل جارثيا ماركيز، وخوان رولف، وخوليو كورتاثار. 4- الواقعية البنائية، ولها تجليات كثيرة في الأدب الروائي في أميركا اللاتينية لدرجة أن النقاد رصدوا فيها ما يقرب من عشرة اتجاهات منها التعبير عن القبح، والتعامل مع اللغة وكأننا في معمل، ومحاولة فهم الواقع المتعالي، والقصة الجديدة أو اللاقصة، والتعبير عن اللامنطق، والتجديد الظاهر للواقع.. إلخ.

وكل هذه الاتجاهات أثرت وتثري حالياً أدب أميركا اللاتينية. وقد حظيت القصة القصيرة هي الأخرى بمسيرة قوية ومتأصلة.

ويتحدث المؤلف عن الواقعية السحرية قائلا: لا شك أن "الواقعية السحرية" تمثل أحد الاتجاهات المهمة في الرواية في أميركا اللاتينية خلال القرن العشرين، وقد حصلت على شهرة عالمية لا مثيل لها، لأسباب كثيرة تحاول هذه الدراسات أن توضحها، مثلما تحاول أن تتغلغل في خصائص هذا الاتجاه، وجذوره، والعوامل التي أدت إلى ظهوره، ومما يجد ذكره هنا أن الواقعية السحرية لها صلة قوية بثقافتنا وتراثنا، خاصة إذا عرفنا أن معظم ممثلي هذا التيار تحدثوا عن شغفهم بحكايات "ألف ليلة وليلة" وتأثيرها الكبير عليهم، فضلاً عن ذلك فإن الواقعية السحرية موجودة في بعض الأعمال الروائية العربية المعاصرة.

ويختم المؤلف المقدمة بقوله "الكتاب إذن مجرد جهد متواضع للوقوف على بعض الجوانب البارزة في الواقعية السحرية، ولعلي بهذه المقاربات أسهم في التعريف بجزء محدود من الأدب المكتوب باللغة الإسبانية خلال القرن العشرين، وهو أدب كانت له أصداء عالمية واسعة."

الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية
يبدأ المؤلف هذه الدراسة بحوار دار بينه وبين الروائي الكولومبي العالمي ماريو بارجس يوسا، ذكر فيه الأخير "أن الواقعية السحرية لا أحد يستطيع أن يعرفها بطريقة محددة وحاسمة."، وبعد أن يورد المؤلف كلمة ماريو بارجس، يعقب عليها بقوله "وهذه الكلمة لماريو بارجس يوسا تدلنا على أن الخلاف حول الواقعية السحرية كبير جدا، وقد كثر الجدل والخلاف إلى درجة أن أحد النقاد وهو أمير رودر يجيث مونيجال وصف الجدال حول الواقعية السحرية بأنه يشبه حوار الطرشان: الجميع يتكلمون ولا أحد يسمع."

وهذا الاختلاف الواسع يعكسه بصورة واضحة الربط بين هذا التوجه وأشياء أخرى كثيرة، مثل الربط بين السحري والعجائبي، أو بين السحري والأسطوري، أو بين الواقعية السحرية والسيريالية.

من هذا المنطلق، يتناول المؤلف في هذه الدراسة، الفرق بين السحري والعجائبي، ويوضح في هذه النقطة أن الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، قد ظهرت في فترة متقدمة من القرن العشرين، ويتضح هذا من الأسماء التي مثلت هذا الاتجاه، وهي - عادة- تتركز في ستة، هم: أليخو كاربنتيير، وميجيل آنخل أستورياس، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وخوان رولف، وماركيز، ثم يقدم نبذة قصيرة عن كل واحد منهم.

ثم يفصل المؤلف القول في باقي الارتباطات الثلاثة الأخرى للواقعية السحرية، بعد أن وضح الارتباط الأول مع السحري والعجائبي، فتحدث عن الارتباط الثاني وهو بين الواقعية السحرية والسيريالية، وأخيرا الارتباط الثالث وهو ارتباطها بالأسطورة.

رواية "خريف البطريرك" أو" الديكتاتور في سأم مملكته":

في هذه الدراسة المتميزة عن تلك الرواية، يربط المؤلف بين الواقع في أميركا اللاتينية من حيث أنها قارة تعاني من تداخل العصور، فكل شيء يحدث في وقت واحد: القدم والحداثة، القرى والمدن، الديموقراطية والديكتاتورية، وبين أثر هذا الواقع في الرواية، ثم يستعرض بعض الروايات الأخرى التي اتخذت من "الدكتاتورية" موضوعا لها، وأهمها رواية "سيدي الرئيس" للكاتب الجواتيمالي ميجيل آنخل أستورياس 1946، ويقارن بين "خريف البطريرك"، و"مائة عام من العزلة"، ثم يتعرض لفصول الرواية الستة، محللا الفصل الأول منها تحليلا مفصلا، مبررا ذلك بقوله "حتى أضع القارئ في جو هذه الرواية العملاقة، وحتى يكتشف بنفسه بعض آليات هذا العمل الخرافي المعبر أجمل تعبير عن واقع الديكتاتورية في أميركا اللاتينية."، ثم يقول "ولن أفعل ذلك في باقي الفصول، وإنما أشير إليها في اقتضاب شديد مرجئا الحديث عنها بشكل أكثر تفصيلا من خلال دراسة اللغة والأسلوب."

وفي حديثه عن الأسلوب واللغة والسرد، يقول "إن ماركيز في هذه الرواية استطاع أن يبدع أسلوبا ولغة قادرين على التعبير عن هذا العالم الخرافي الذي أبدعه حول الديكتاتور."

أما التقنية التي فضلها ماركيز في روايته هذه، فهي تقنية "الأنا الجماعي"، وتداخل أنواع الخطاب من غائب إلى مخاطب إلى متكلم، وتتسم هذه الرواية أيضا بشعرية الجمل، وتحويل ماركيز المشهد العادي إلى مشهد تصويري، واستخدامه لظاهرة التكرار سواء على مستوى الكلمات أو على مستوى الجمل.

عن الحب وشياطين أخرى:

تبدأ رواية "عن الحب وشياطين أخرى" لماركيز، بما يشبه المقدمة، التي يخبرنا فيها أنه في 26 أكتوبر/تشرين الأول عام 1949 كلف بمهمة صحافية هي متابعة أعمال الحفر التي كان من المقرر أن تتم في قبور سراديب دير "سانتا كلارا" القديم، الذي كان قد حول إلى مستشفى منذ حوالي قرن من الزمان، ثم تقرر إقامة فندق من خمس نجوم مكانه".

ويرى د. أبوأحمد أن هذه المقدمة تدل على بعض اللوازم المعروفة في أدب ماركيز، مثل المزج بين الواقعي والأسطوري، وغيرها، ثم يسلط الضوء على دلالات عنوان الرواية، ويقارن بين "شياطين الرواية وشياطين ماركيز"، معرجا على شياطين الشعراء في الأدب العربي، ناقلا حكاية طريفة - واردة في هذه الصدد- من كتاب "جمهرة أشعار العرب"، ويتناول شخصيات الرواية، أهمها الأب كايتانو دي لاورا، ويختم دراسته هذه بالحديث عن التقنيات التي استخدمها ماركيز في روايته مثل اللغة والوصف وجمالية القبح، والحلم.

عندما يكتب ماريو بارجس يوسا عن جابرييل جارثيا ماركيز:

يتعرض المؤلف في هذه الدراسة لكتاب يوسا عن ماركيز، ويكتفي بالجزء الأول منه، المعنون "الواقع الواقعي"، وفيه يتحدث عن المصادر التي تأثر بها ماركيز في أعماله ومن أهمها: ألف ليلة وليلة، جدته، كافكا.

رحلة وحوار مع ماريو بارجس يوسا:

يقدم المؤلف تحت هذا العنوان الحوار الذي دار بينه وبين يوسا أثناء رحلتهما معا لمدينة الإسكندرية، متناولا فيه لمحات من حياة بارجس، ثم الحديث عن بعض القضايا الأدبية المتصلة بأدب أميركا اللاتينية، خاصة فيما يتعلق بارتباط مصطلح "الواقعية السحرية" بأدب أميركا اللاتينية،.... إلى غير ذلك من الأفكار والآراء.

اعترافات أديب:

إذا كان ماركيز من أكثر الأدباء حديثا عن نفسه، فإن د. أبوأحمد يستثمر ذلك، قائلا "إن جارثيا ماركيز مثل كبار الكتاب العالميين يفجر في كلامه عن نفسه وفي حواراته مع الآخرين أخطر القضايا وأهمها، وتجد حديثه في ذلك لا يقل إبداعا، وعمق رؤية، وقدرة على النفاذ في صميم الموضوعات عن كتاباته الإبداعية نفسها. ونحن من خلال ذلك سوف نحاول أن نتعرف على بعض ما قاله هذا الأديب العالمي عن نفسه مما يدخل في مجال الاعترافات أو الحديث عن النفس."

ملحق
ينهي د. أبوأحمد كتابه الشيق هذا، بملحق‏,‏ فيه عملان للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وهما: قصة قصيرة بعنوان "الآخر",‏ ومقال عن مترجمي ألف ليلة وليلة.

وإذا كان د. علاء عبدالهادي يرى، في مقاله سالف الذكر، أن هذا الجزء "دخيل على الكتاب‏,‏ بل غريب عن السياق المنهجي النقدي للعمل.‏"، فإنني لا أتفق معه في ذلك؛ بل أرى أن الملحق بما يتضمنه قد جاء مناسبا تماما لموضوع الكتاب؛ وذلك لما يلي:

1- إذا كان المؤلف، على مدار دراسات الكتاب، قد ركز على روايات الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، وأشار مجرد إشارة سريعة - في المقدمة - لحال القصة القصيرة في أدب أميركا اللاتينية، فإنه كان من الواجب عليه أن يقدم ولو نموذج لحال "الواقعية السحرية" في القصة القصيرة، وهذا ما تنبه إليه فقدم قصة "الآخر" لبورخيس، فما لا يدرك كله لا يترك كله.

2- أما عن مقال بورخيس عن مترجمي ألف ليلة وليلة، الذي تناول أشهر ترجمات "الليالي" في الغرب بالتحليل والتعليق والمضاهاة، فإنه قد جاء مناسبا أيضا؛ وذلك لأنه لا تخلو دراسة من دراسات الكتاب من الإشارة إلى تأثير ألف ليلة وليلة على رواد "الواقعية السحرية" في أميركا اللاتينية، وعلى رأسهم ماركيز، الذي اعترف أكثر من مرة بأن أكبر التأثيرات على أدبه جاءت من مصدرين هما: جدته، وقراءته لألف ليلة وليلة، فلا عجب إذن أن يختم د. حامد أبوأحمد كتابه عن الواقعية السحرية، بمثل هذا المقال.
________________________________________

* شاعر وناقد مصري

[email protected]
 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي