رحلة المسيري من المادية إلى الإنسانية الإسلامية

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-05-30
الرؤية المنهجية تعمقت عند المسيري، فكانت إسهاماته تكمن في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدواتٍ تحليليةً.

بيروت ـ يستهل الكاتب ممدوح الشيخ مقدمة كتابه الجديد بالقول إن الكتابة عن الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري مهمة صعبة، لأنه عالم شديد الاتساع والثراء حتى أنه يكاد يكون صاحب مشروع متكامل لإعادة تأسيس العلوم الإنسانية وفق رؤية عربية إسلامية (إنسانية) بعيدا عن تراثها الضخم الواقع في أسر المركزية الغربية، أو بتعبير آخر تأسيس "حداثة إسلامية". وكانت الحصيلة إنتاجا كبيرا يجمع بين الغزارة والعمق والتنوع: دراسات في الظاهرة الصهيونية، وأعمال في النقد الأدبي والأدب الإنجليزي، والعلمانية والتحيز ومناهج البحث، وأعمال إبداعية: دوواين شعر وقصص أطفال و.. .. ..

كما أن المسيري مثل اللؤلؤة ذات الأوجه المتعددة، فهو في مرحلة من حياته كان ماركسيا ماديا، وفي مرحلة تاليا إسلاميا (إنسانيا)، وهو في مرحلة كان أكاديميا تخصصه الأدب الإنجليزي وهمه الأساسي "التعليم"، ثم استقال للتفرغ للكتابة وبشكل أساسي في دراسة الظاهرة الصهيونية، وفي الوقت نفسه محجما بشكل طوعي عن العمل العام ليخرج على قرائه، كان مفكرا موسوعيا ربما لم تشهد الثقافة العربية الإسلامية قامة تطاوله من زمن بعيد، لكنه لم يتوقف عن التغير، فأصبح في مرحلة تالية صاحب مساهمات سياسية مهمة.

ورغم أن عبدالوهاب المسيري يمثل حالة من حالات مراجعة فكرية مماثلة شهدها الواقع الثقافي المصري خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات بشكل متزامن تقربيا (المستشار طارق البشري – الراحل الأستاذ عادل حسين – الدكتور محمد عمارة – الراحل الأستاذ محمد جلال كشك – الأستاذ الراحل خالد محمد خالد – الأستاذة صافي ناز كاظم.. ..) فإن المسيري ينفرد عن هؤلاء جميعا بأهمية معرفية استثنائية.

فالمراجعة الفكرية في حياة الدكتور عبدالوهاب المسيري لم تكن رد فعل لنكسة يونيو 1967 التي لعبت دورا مهما في دفع عديد من المثقفين المصريين لمراجعة قناعاتهم الفكرية تحت ضغط الفشل العسكري المريع الذي جعل مشروع مضاهاة تجربة التنوير الأوروبي محل شك كبير، وبالتالي اندفع كثيرون للبحث عن أسباب الإخفاق في عالم القناعات النظرية لا في عالم الوقائع المباشرة المتعينة ومنطق الأرقام وموازين القوى.

والمسيري لم يدخل مرحلة المراجعة بحثا عما يمكن أن يحرك الشارع – كما فعل سياسيون نفعيون نظروا للهوية الإسلامية كورقة رابحة – بل دخل هذه المرحلة من باب التساؤلات الكونية والتأمل في قضايا شديدة العمق وفي مواجهة أسئلة تبلغ الغاية في التركيب والتعقيد.

ومما يضاعف صعوبة الكتابة عن المسيري أيضا أن كتابته التي تجمع بين الضخامة والعمق توالت خلال سنوات قليلة تبدأ قبل صدور موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" بقليل حيث ظل الرجل يراكم المشروعات ثم خرج على القارئ خلال هذه السنوات القليلة بعدد كبير من المؤلفات خلال سنوات محدودة، وبالتالي فإن هذه الأعمال لم تأخذ من الوقت ما يكفي لأن تكون موضوع جدل ومحل تقييم وتحليل بحيث يكون هناك قراءات مختلفة لمشروعه الفكري، وهي صعوبة أدركناها بشكل عملي عند شروعنا في الكتابة.

وقد أثمر المشروع الفكري للمفكر العربي الإسلامي الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري ثمرة أخرى مهمة ومختلفة نوعيا، فالرجل بعد ما يزيد على ربع قرن الصارمة التي فرضها على نفسه طوعيا لينجز مشروعه الرئيس موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" قرر أن يخوض غمار العمل السياسي المباشر عضوا مؤسسا في حزب الوسط المصري (تحت التأسيس)، ثم ناشطا في عدد من الفعاليات السياسية توجت باختياره منسقا عاما لـ "الحركة المصرية للتغيير" (كفاية).

والصعوبة الأخيرة في الكتابة عن المسيري إنسانية/ شخصية فقد ارتبط المؤلف بالدكتور المسيري بعلاقة شخصية وثيقة لكن المؤلف – حسب المقدمة – اتخذ موقع الناقد لأفكار المسيري في حياته في مواقف كثيرة تكشفت بسببها مساحات الخلاف في موضوعات عديدة معرفية وسياسية.

الباب الأول عنوانه "المسيري الإنسان"، وفي الفصل الأول منه "التكوين" يتناول الكاتب حياة المسيري الذي ولد في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 1938 في مدينة دمنهور المصرية. وفي العام 1955 التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية. وفي العام 1959 تخرج وعيِّن معيدا، وفي عام 1963 سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كولومبيا، ثم التحق بجامعة رتجرز وحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1969. وفي العام نفسه عاد الدكتور عبدالوهاب المسيري إلى مصر عضوا بهيئة التدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس.

وفي العام 1970 عُيِّن الدكتور المسيري مستشارا لوزير الإرشاد القومي وهي وزارة استحدثها ضباط يوليو، وكان وزير الإرشاد آنذاك الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل الذي ربطت بينه وبين الدكتور المسيري علاقة شديدة الأهمية. وقد شهد العام 1972 صدور كتاب "نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" الذي يصفه المسيري بأنه أول مؤلفاته الحقيقية. وأصدر المسيري أول مؤلفاته الموسوعية عام 1975 "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية"، وفي العام نفسه عاد إلى أميركا، وخلال هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1979 عمل المسيري مستشارا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة.

وبعودته إلى مصر عام 1979 عاد المسيري للتدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس قبل أن ينتقل إلى السعودية ثم إلى الكويت للتدريس. وفي العام 1990 انتهت علاقة الدكتور المسيري بالتدريس فاستقال وتفرغ للكتابة، وبدأت مؤلفاته تتوالى بدءا من عام 1996 بصدور كتابه "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة"، ثم صدرت الموسوعة عام 1999.

وفي يناير 2007 تولى الدكتور المسيري منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وهي الحركة المعارضة لحكم الرئيس حسني مبارك وتسعى لإسقاطه من الحكم بالطرق السلمية ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده.

وتعكس السيرة الذاتية للمسيري اعتزازه بأصوله واهتمامه بقضية الهوية بمعنييها الذاتي والعام، وهو يكشف عن أنه مبكرا بحث عن أصل عائلته. وقد نشأ المسيري في رحاب أسرة تجارية ثرية ليس عندها اهتمام كبير بالثقافة، وكانت زيارته الأولى لمكتبة البلدية في دمنهور نقطة تحول في حياته.

وفي أميركا بدأ عبدالوهاب المسيري يتحول من الاهتمام بدراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الظاهرة الصهيونية التي طرحت عليه، شأنه شأن أي عربي يجد نفسه في الولايات المتحدة الأميركية.

ويصف المسيري هذا التحول قائلا "فكتبت للملحق الثقافي في السفارة المصرية في هذا الوقت (عام 1965) لتغيير موضوع بعثتي من دراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الصهيونية والعبرية، لكنه أبلغني أنه من الصعب ذلك، فأكملت الدراسة حتى التقيت بالدكتور أسامة الباز المستشار السياسي في أميركا فوجد لدي شيئا مختلفا في رؤية وفهم الصهيونية وإسرائيل فشجعني على التخصص في الصهيونية.

وصدر لي في عام 65 كتيب صغير عن الصهيونية باللغة الإنجليزية يسمى إسرائيل "قاعدة للاستعمار الغربي". وحينما عدت إلى مصر واصلت المسيرة. فكتبت دراسة بعنوان "نهاية التاريخ" حررها الدكتور أسامة الباز وصمم غلافها بنفسه فهو يهوى الخط العربي. ثم قدمني الدكتور أسامة للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي قرأ المخطوطة، وعينني باحثا بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وقام بإرسالي إلى الولايات المتحدة وأعطاني مبلغا ضخما لشراء مجموعة كتب كانت بمثابة نواة لمكتبة مركز الدراسات.

وكشفت تجربة المسيري حجم معاناة المثقف العربي وضآلة المردود المادي لهذا العمل الراقي، فحينما انتهي من كتابة الموسوعة كان خالي الوفاض تماما فقدم طلبا للحكومة المصرية ليعالج على حساب الدولة، وفي النهاية علم مكتب الأمير عبدالعزيز بن فهد بالموضوع، فتكفل بتكاليف العلاج. وقد توفي الدكتور عبدالوهاب المسيري عن سبعين عاما في الثالث من يوليو/تموز 2008.

***

الفصل الثاني "التحولات" ويتناول فيه الكاتب "المراجعة الفكرية" عبر تمهيد يتناول مفهوم المراجعة ومناخها في السبعينيات والثمانينيات. ويشكل التحول الفكري في حياة عبدالوهاب المسيري معلما مهما، فهو عرف كماركسي سابق لكن الجديد أنه قبل انتمائه الماركسي ولفترة قصيرة انضم لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد يوليو 52 انضم لهيئة التحرير، وترجم كتاب ماوتسي تونغ عن التناقض، وكانت أول ترجمة عربية لهذا الكتاب المهم.

ومن الطريف أن المسيري بدأ إعادة اكتشاف الإسلام وهو في الغرب ومما يرويه المسيري عن هذه الفترة أن من الأمور التي لاحظها بشكل مباشر أنه اكتشف خلال إقامته بأميركا كان كل أصدقائه من أصل: إما كاثوليكي وإما يهودي وبدأت هذه المسألة تحيره لأنه حسب قوله حرفيا "تعلمت في الدروس الماركسية التي لقنتها أن الدين إن هو إلا أفيون الشعوب، وجزء من بناء فوقي يمكن رده للبناء التحتي. ومع هذا فإنه لا يصلح أساسا صلبا للتصنيف وللإدراك (فالأساس الحقيقي الوحيد للتصنيف – كما تعلمنا – هو الاقتصادي). ومع هذا لا حظت أن المكون الديني هو الطريقة الوحيدة لتفسير انجذابي للكاثوليك."

وهو يلخص هذا التحول قائلا "خلاصة الأمر أنني اكتشفت أن الدين كمقولة تحليلية وليس مجرد جزء (غير حقيقي) من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته، ويمكن تفسيره (كشفه – فضحه) في إطار العناصر الاقتصاية، وأن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية. وهكذا اهتزت معادلة أن البناء الفوقي (إن هو إلا تعبير عن البناء التحتي). كنت قد بدأت أشعر بأن مقولة الدين ذات فعالية في الواقع المادي الصلب وليست جزءا مغلقا من عالم الغيب، أي أن الدين أصبح تدريجيا في تصوري جزءا من الكيان التاريخي الإنساني ليس منفصلا عنه. ولذا، بدأت أتعرف على التجربة الدينية الإسلامية لأفهم منطقها الداخلي."

في الفصل الثالث "نظرة على المسيرة والمراجعات" يطرح ممدوح الشيخ رؤيته لتجربة عند المراجعة عند المسيري من خلال قراءة نقدية.

***

الباب الثاني عنوانه "عبدالوهاب المسيري ناقدا أدبيا" ويبدأه بفصل عنوانه: "الملامح العامة لرؤيته النقدية". أما الفصل الثاني فعنوانه "عبدالوهاب المسيري ناقدا للتفكيكية"، يليه فصل عنوانه "نموذج من النقد التطبيقي: المسيري وشعر المقاومة الفلسطيني".

الباب الثالث خصصه ممدوح الشيخ لقضايا المنهج في فكر المسيري (التحيز والموضوعية والنماذج الإدراكية)، الفصل الأول من الباب عنوانه "الرؤية العامة لقضايا المنهج في فكر المسيري"، وهو يمهد بقول المسيري عن نفسه "لاحظت أنني لست مهتماً بالفلسفة، وإنما مهتم بتاريخ الأفكار."

وعلى مفترق العلاقة بين المعرفة والهوية كانت قضية المنهج واسطة العقد، وإذا كان الاشتغال بنقد الحضارة الغربية على مستوى الفكر النظري وكذلك التاريخ السياسي، أمراً قد أخذه عدد غير يسير من المفكرين والباحثين مأخذ جد وهي قضية يمليها الواجب التاريخي والحضاري، فإنه ليس من السهل أن يتغلغل الباحث إلى أعماق هذه الحضارة بحمولتها الفلسفية متجردا من التحيزات التي فرضتها المناهج العلمية الغربية، فقد أحكمت هذه المناهج قبضتها على المعارف الإنسانية المعاصرة، حتى أصبحت العملية الإبداعية أمرا مستحيلا ما لم يسْعَ الباحث أولا كشف هذه التحيزات.

ومن ثَمَّ، تكمن أهمية ما يقدمه الدكتور عبدالوهـاب المسيري. فهو يستند في نقده للخطاب الغربي إلى أدوات تحليلية مقاومة ومؤسسة في الوقت نفسه لمسار جديد في الخطاب المعرفي الإسلامي المعاصر، يضمن للمناهج العلمية الإسلامية استقلالا من القفص الحديدي الأكاديمي الغربي وتحررا منه؛ وهذا لا يعني قطيعة معرفية مطلقة مع ما أنتجته الحضارة الغربية، بل يُعَدُّ من قبيل الاستيعاب والتجاوز.

وتعد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد من أهم الأعمال التي قدمها المسيري وأبرزهـا. ولا تكمن أهميتها في كَمّ المعلومـات المُقَدَّمة فقط – وإن كان هو نفسُه يقلل من أهمية هذا البعد – بل تتعداها أيضا إلى النموذج التفسيري التي تقدمه بالاستناد إلى آليات تحليلية ونماذج تفسيرية متميزة.

وتتسمم الأبحاث والدراسات في مجال العلوم الإنسانية باحتوائها العديد من المفاهيم والمصطلحات، والتي يسعى الباحث من خلالها إلى تفسير الظاهرة الإنسانية موضوع الدراسة. بيْد أن عملية التفسير هذه، لا تستقيم دون تحديد وإيضاح معاني ودلالات هذه المفاهيم قبل الخوض في دراستها ونقدها. فالمفاهيم والمصطلحات تساعد في فهم وتفسير الظواهر بقدر ما توقع في الوهم والغموض الشديدين إذا ما تجاهل الدارس أو الباحث تحديد دلالات هذه المفاهيم.

ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند عبدالوهاب المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي تكمن أساسا في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدواتٍ تحليليةً، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملا فكريا متكاملا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي أعمال أخرى تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو "يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد. وأخيرا يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة.


الكتاب: عبدالوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية

المؤلف: ممدوح الشيخ

الحجم: 286 صفحة من القطع المتوسط

الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي

مكان النشر: بيروت - لبنان

سنة النشر: الطبعة الأولى 2008










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي